االعبـقري المجدد الإمام علي بن حسن العطاس
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الإمام الكبير والعبقري المجدد، العارف بالله والدال عليه، الحبيب علي بن حسن بن عبد الله العطاس، المتوفى عام 1172 من الهجرة النبوية، من أبرز أعلام القرن الثاني عشر الهجري، في شبه جزيرة العرب، كما أشارت إلى ذلك العديد من المراجع العربية والأجنبية التي كتبت عنه وترجمت له، آتاه الله القدم الراسخ والباع الطويل في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وفي طلب العلم والأخذ منه بأعظم نصيب في مختلف الفروع والمجالات العليمة المعروفة في عصره وما قبل عصره، وفي نشر العلم والمعرفة حيث تربى وتخرج به وبتلامذته الأفاضل المئات من العلماء والدعاة جيلا بعد جيل، الذين كان لهم في تاريخ المنطقة وازدهار حضارتها بصمات واضحة ومؤثرة على كل المستويات، وله أيضا قدرات ومواهب وشخصية متميزة وابتكارات بكر في قول الشعر المطبوع الذي جمع منه ديوان حافل من جزأين، وفي توثيق التاريخ المحلي والإسلامي العام وفي العناية بالآثار والمواقع الأثرية المشهورة في حضرموت، وفي التأليف والكتابة في مختلف المجالات حيث أن له في هذا المضمار تفرد وميزات، لم يسبقه في بلاده بها سابق من العلماء والمفكرين. ولقد جند هذا العبقري الفذ أيضا قدراته في إصلاح ذات البين بين مختلف القبائل والأسر في منطقته ومن كافة الشرائح الاجتماعية، وفي ترسيخ الأمن والأمان، وتأمين الطرق والمارة في تلك المنقطة بأساليب مبتكرة تثير الدهشة والإعجاب، أشرنا إليها تفصيلا في أبواب الكتاب الذي تصدينا بفضل الله وعونه وتوفيقه، لكتابته عنه، وسميناه "العبقري المجدد" رغم قدراتنا العلمية المحدودة وبضاعتنا الضئيلة في الفكر والتاريخ والأدب، إلا أنه كما قيل لا يسقط الميسور بالمعسور.
ومثل هذه الجهود المتواضعة من أمثالنا، إن لم تأت على الوجه المطلوب، ولم تؤد ما هو منتظر منها ومأمول، بسبب قصور المؤلف وضعف الكاتب وقلة خبرته وعلمه -كما هو الحال بالنسبة لي-، فإن هذه الجهود المتواضعة تفتح الباب -على الأقل- لأصحاب التخصصات والقدرات والمواهب في الكتابة والتأليف، لإعطاء مثل هولاء العباقرة الأعلام حقهم من التقدير والدراسة العلمية الأكاديمية الجادة في الحاضر والمستقبل. وقد جعلنا كتاب "العبقري المجدد" من عشرين بابا تناولنا فيها قدر المستطاع مختلف الجوانب المتعددة في حياة وسلوك وأعمال هذا الأمام الكبير العلمية والتاريخية والأدبية والإصلاحية، ونود أن نلفت الانتباه إلى أن كل كلمة أو جملة بين قوسين صغيرين أو بين خطين صغيرين في ضمن كلام المؤلف رضي الله عنه هي من عندنا وليس من ضمن كلامه، وقد وجدنا ضرورة إدخالها إلى النص بهدف شرح بعض الكلمات أو المصطلحات المحلية، أو الربط بين أجزاء الموضوع قدر المستطاع. ومن الله نسأل العون والتوفيق ونصلي ونسلم على حبيبنا محمد وآله وصحبه وسلم
نسب الحبيب الإمام علي بن حسن العطاس من جهة الأب
--------------------------------------------------------------------
هو الإمام العارف بالله والدال عليه، العبقري المجدد، العابد الزاهد/ علي بن حسن بن عبد الله بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن بن عقيل العطاس بن سالم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن السقاف بن محمد مولى الدويلة بن علي بن علوي بن الفقيه المقدم محمد بن علي بن محمد صاحب مرباط بن علي خالع قسم بن علوي بن محمد صاحب الصومعة بن علوي صاحب سمل بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى بن محمد بن علي العريضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وريحانته، أبن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبن فاطمة الزهراء البتول، رضي الله عنهم أجمعين
مولده ونشأته
--------------------------------------------------------------------
ولد صاحب الترجمة الحبيب الإمام علي بن حسن بن عبد الله العطاس، رضي الله عنه ليلة الجمعة في شهر ربيع الثاني عام 1121من الهجرة، بمدينة حريضة، (حضرموت) وقت أذان العشاء حيث كان سقوط رأسه الشريف مع أول التكبير من الأذان، في بيت جده الحبيب عبد الله بن حسين بن عمر العطاس، وهو الذي سماه عليا، ولا يزال المنزل الذي وجد فيه ومكان ولادته عامرا معروفا بحريضة، يقام فيه احتفال سنوي بدخول شهر رجب من كل عام حيث يقرأ أهل تلك البلدة القرآن الكريم، والأدعية المأثورة وقصة المولد النبوي، التي جمعها العلامة الفقيه، محدث الديار اليمنية، الشيخ عبد الرحمن بن علي الديبعي الشيباني.
وبعد مرور سبعة أيام من ولادته لم يقبل الرضاعة، فأخبروا بذلك جده الحبيب الإمام الحسين بن عمر -بن عبد الرحمن العطاس - فقال: "إن لهذا لشأن، وإن هذا الولد إما يموت صغيرا عاجلا، وأما أن يسلم ويكون من الأولياء" وقالت له والدته رحمها الله: "لما أردنا أن نحلق رأسك أول مرة كان ذلك يوم غير يوم الربوع من أيام الأسبوع، فقال جدك عبد الله بن حسين -بن عمر بن عبد الرحمن العطاس- خلوا -أي اتركوا- حلاقته اليوم، واحلقوا له بالربوع، لعل الله يجعله من العلماء، قالت ففعلنا ذلك ولازمنا الحلاقة لرأسك بالربوع"، وقالت له أيضا رحمها الله: "ووقعت المراجعة بيننا وبين جدك عبد الله المذكور حين أراد تسميتك عليا فقال: نسميه عليا، فقالت بل نسميه فلانا، وذكرت اسما آخر، وربما ذكرت له شيئا من كلام النساء، كقولهن (سمي علي واصبري) فقال علي ويحمل صميلين - والصميل هو العصا الكبيرة الغليظة بلهجة أهل حضرموت، وذلك كناية عن الوقار المأمول فيه، والسعي في طلب العلم ونشر-".
توفي والده الحبيب حسن بن عبد الله بن حسين العطاس في شهر رمضان المعظم، عام 1124هـ وصاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن رضي الله عنه، صغيرا عمره حوالي ثلاث سنوات، أي قبل أن يبلغ سن التمييز، ولا يتذكر من والده إلا يوم وفاته التي تركت آلما مبرحة وأحزانا عميقة في نفسه، حتى منّ الله عليه بنعمة الصبر والتأسي واللطف.
كفله جده الحبيب عبد الله بن حسين بن عمر بعد وفاة والده، هو وإخوانه، أحمد وصالح وأبو بكر وعلوي، وأخواته شيخة ورقوان، بنظر ومعونة شاملة من والدتهم الشيخة الصالحة/ فاطمة بنت أبي بكر بن شيبان بن اسحق، وكان الكل في امتداد نظر جدهم الإمام الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس الباطن الميمون والظاهر المأمون. وكانت جدته (أم والده) الشريفة العابدة الصالحة، عائشة بنت الحبيب سالم بن عمر بن عبد الرحمن العطاس، وهي زوجة الحبيب عبد الله بن حسين بن عمر وأم أولاده (حسن وسالم وأحمد وعلي) وبناته (علوية وسلمى) تخص صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن رضي الله عنه، بالكثير من العطف والرعاية والتوجيه.وكذا عمته سلمى بنت الحبيب عبد الله بن حسين العطاس ( وهي زوجة الحبيب عبد الله بن أحمد بن حسين بن عمر العطاس وأم أولاده، شيخ وحسن ومحمد، وأم أبنته فاطمة).
ابتدأ صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن في تعلم القرآن العظيم، بحريضة، عند الشيخ سالم بن علي باعنتر، تلميذ جده الحبيب حسين بن عمر العطاس، وعندما يذهب إلى "هينن" بلد والدته ومسقط رأسها، بصحبة والدته، لزيارة أخواله، كان يواصل تلقي درس القرآن الكريم علي يد المعلم الشيخ عمر باحوّاقه.وكان يلقى صعوبة في الدرس والاستيعاب، حتى منّ الله عليه بالفتح، وشرح صدره للقرآن ولتلقي العلوم وسهولة استيعابها وهو ينظر في المصحف الشريف في بيت جده وكافله الحبيب عبد الله بن حسين، في سورة "ويل للمطففين" فانطلق يقرأ في المصحف بيسر وسهولة وكأن المصحف الشريف يخاطبه.
يقول صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن ص16/1 من كتابه سفينة البضائع ما نصه: (وقد نلبث ببلد هينن المدة المديدة، ونحضر الحضرات والموالد والرواتب المرتبة في المساجد، فاتفق أنه كان في بعض الليالي فعل بعض الناس مولداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحضرته أنا والصنو العلامة أبو بكر أبن الوالد حسن، وكان أصغر مني سناً، ونحن كلنا صغار جداً، فجلسنا في طرف المجلس عند الأولاد الصغار، وكان حاضرا ذلك المولد رجل معروف بالولاية، ظاهر النسك والعبادة، يقال له "عوض بن عبد الله حيسي" من آل زبيد أهل هينن الذين يقال لهم آل علي بن سالم، فلما قاموا في المقام الذي يقومونه في أثناء المولد، جعل الرجل يتواجد ويدور في الحلقة، ثم خرج من بين الحاضرين، واحتملني على عاتقه ودخل بي وسط الحلقة وجعل يدور بي على رأسه والطيب يفوح منه، وكان قبل ذلك لا يعرفني لصغر السن، فلما كان من الغد سأله بعض المحبين للنبي وآله، فقال له أتعرف من هو ذلك الولد الصغير الذي حملته ودرت به في المقام؟ فقال لا أعرفه، إلا أني رايته قطعة نور يتلألأ في ظلمة الليل بين أولئك الصغار، فقال له السائل، ذلك علي بن حسن بن عبد الله بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس، فقال – الشيخ عوض المذكور- للسائل: إن طال بك العمر، فسترى له شأنا عظيما ومقاما فخيما وسيلغ مقام جده عمر بن عبد الرحمن العطاس) انتهى من السفينة ص16و17.
لقد نشأ الحبيب صاحب الترجمة الإمام علي بن حسن العطاس رضي الله عنه، في بيت علم وعمل وبين أفراد أسرة صالحه، كان سعي أفرادها وسلوكهم (ذكورا وإناثا) بذل الجهد في حفظ كتاب الله والتخلق بأخلاق القرآن والمداومة على ذكر الله آنا الليل وأطراف النهار، لباسهم التقوى وسيماهم الحياء، وشعارهم الزهد في كل ما يحجب عن الله أو يبعد عنه. فجدته (خالة والده) الشريفة فاطمة بنت الحبيب سالم بن عمر بن عبد الرحمن العطاس، حافظة لكتاب الله لا يفتر لسانها عن ترتيل القرآن وعن ذكر الله وكانت تقول "الموت عندي مثل العرس" وكانت آخر كلماتها جزى الله عني أحمد بن حسين بن عمر العطاس (أي زوجها) خيرا فقد علمني هذه الكلمات التي من قالها في مرضه ثم مات لميدخل النار وهي "لا إله إلا الله والله وأكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله إلا الله له الملك وله الحمد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" وجعلت تكرر تلك الكلمات حتى انتقلت روحها الطاهرة إلى بارئها.
روى الترمذي بسنده إلى أبي مسلم أنه قال اشهد على أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أنهما شاهدان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من قال هذه الكلمات في مرض ومات لم تطعم جسده النار وهي: لا إله إلا الله والله وأكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله".
وقال صاحب الترجمة رضي الله عنه يصف ولعه المبكر بقراءة القرآن وطلب العلم: {أعلم أنني كنت والحمد لله من أول النشأة مولعا ذا نشوة بقراءة القرآن، وما والاه من المصاحف والكتب والمساجد والزوايا والختوم (ختم القرآن) والحضرات والموالد وجميع مجامع الخيرات، فكنت بتوفيق الله ولطفه من حين ميزت وعرفت، لها محب، ودائما أقصدها بأدب، وعن أهلها أذب، وذلك لفرط الولاء وشرط الحب، حتى أني ربما خرجت إلى الخلاء وأنا في سن نحو الخمس السنين فأخرج ورق "العشرق" الأصفر (العشرق، بكسر العين وسكون الشين وكسر الراء وسكون القاف، نوع من النبات الذي يكثر في ريف حضرموت له عصارة بيضاء مرة وحارة مثل اللبن) وأشكّه -اجمعه- في خيطين على هيئة تكعيب أوراق المصاحف والكتب حتى أني جمعت منه مثل غلظ المجلد الكبير الضخم وربما تصفحته متلذذا بذلك على هيئة القاري، وربما جعلته في إبطي مثل ما يفعل حملة المصاحف والكتب، وربما رآني بعض الناس وقد جعلته في إبطي ولبن "العشرق" يقطر من الورق فيصيب باطن بطني، فنهاني عن حمله ويقول إنه -أي عصارة ورق العشرق- ربما جرح بدنك إذا فعلت ذلك} ص 210 و 211 السفينة ج1.
ولقد كان صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن رضي الله عنه ملازما منذ صغره لمجلس جده وشيخ فتحه، الحبيب الإمام حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس لا يفارقه إلا لضرورة، ولا يعلم بشخص ممن ينسب إلى الخير والصلاح يقدم إلى بلده حريضة إلا قصده وطلب منه تبركا، الإجازة والدعاء والإلباس.
وقد انتقلت والدته مع أولادها وبناتها بأمر من الحبيب الحسين بن عمر العطاس والحبيب عبد الله بن حسين بعد وفاة زوجها الحبيب حسن بن عبد الله إلى بيت الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس الذي بناه بيده الشريفة في أعلى بلد حريضة، وهي الدار التي أطلق عليها صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن في مؤلفاته أسم "دار ليلى" ويقصد بذلك على عادة أهل علم الإشارة في الرمز لما لا تتسع له العبارة، أنها "دار علوم الشريعة والطريقة والحقيقة والعمل الخالص الصادق" وهو العلوم والأعمال التي عشقها مؤسس الدار وبانيها الحبيب عمر كعشق قيس لليلاه، التي كان على استعداد في التضحية لأجلها بحياته وكل عزيز عليه "وكلٌ وما يعشق ويحب" ومكثوا بها سنوات عدة.
وتجدر الإشارة إلى أن تلك الدار لم يسكنها، بعد وفاة صاحبها الحبيب عمر قبل أسرة الحبيب حسن بن عبد الله بن حسين العطاس أحد، حيث كان لكل نجل من أنجال الحبيب عمر دارا مستقلة في حريضة. وفي توجيه الحبيب حسين بن عمر العطاس لذرية حفيده الحبيب حسن عبد الله بالانتقال إلى تلك الدار المباركة التي شهدت أعظم خلوات القطب الكبير الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس، في العبادة والذكر والرياضة الروحية وفيض العطايا الربانية عليه، رمز ذي دلالة وإشارة تغني عن العبارة في تهيئة صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن العطاس للاضطلاع بدور جده الحبيب عمر بن عبد الرحمن في القيام بأعباء الرسالة السامية التي انتقلت بالحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس من عينات إلى حريضة، كما انتقل بعد ذلك صاحب الترجمة رضي الله عنه من حريضة إلى المشهد لتلك الغاية والرسالة المتمثلة في الدعوة إلى الله ونشر العلم وإصلاح ذات البين ونشر الأمن والأمان وإكرام الضيف. يقول الحبيب علي بن حسن في السفينة: {وكنت في بعض الأحيان في سن الثمان والتسع أو نحو العشر، ربما يطرقني في بعض الليالي خوف الله تعالى وعذابه في الدار الآخرة، فأبيت لذلك سهران طول الليل حتى أقوم إلى المسجد عند دخول الثلث الأخير من الليل}.
تربيته وتعليمه
--------------------------------------------------------------------
عندما ننطلق مع صاحب الترجمة الإمام علي بن حسن العطاس في متابعة أدوار التربية والتعليم التي عاشها وسجلها بقلمه في أسلوب عذب بسيط، تنبض من ثناياه ملامح قوة الشخصية والنجابة والنبوغ، ودلائل الصدق وقوة الذاكرة والدقة في الوصف والتسجيل، نتعرف بوضوح على منهج التربية والتعليم في ذلك العصر ولدى تلك الأسرة التي تعد أبناءها للاضطلاع بحمل أقدس واجل الرسالات المتمثلة في الدعوة إلى الله ونشر العلم وإصلاح ذات البين وإكرام الضيف، ونخرج من تتبع تلك المراحل بالملاحظ التالية:
*- زرع الإحساس المبكر بالمسئولية والجدية في التعامل مع الحياة وتقلباتها وتهيئة الفتى نفسيا وجسميا وعقليا لتحمل تقلبات الدهر بالعزيمة والقوة الإيجابية والصبر والكفاح من خلال إرساله إلى مواقع العمل في الحقول والرعي وغيرها من الممارسات العملية المضنية والمجهدة.
*- إماتة غرور وتطلعات النفس الإمارة بالسوء، وذلك بغرس بذور لتواضع والصبر المبكرين ، ونزع أية أحاسيس فوقية قد تعرض لها، مثل داء الإحساس بالتميز عن الوسط الاجتماعي في العمل والممارسة، ويتم نزع تلك الأحاسيس مبكرا من خلال مشاركة الفتى لكافة أهل بلده من جميع الشرائح الاجتماعية في العمل الجماعي المنتج في الحقول وجلب المياه من الآبار العميقة.
*- شغل أوقات الفراغ وخصوصا في بدايات سن المراهقة بالعمل المنتج الذي يمثل رياضة جسمية ونفسية في وقت واحد.
*- تأسيس التوجهات العلمية والفكرية على القرآن العظيم، -كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه-، تعليما وتلقينا وتحفيظا ودرسا ثم تلاوة متصلة له مع الذكر والفكر حيث كان القرآن والذكر في تلك البيئة الصافية البسيطة، نبراس حياة ومنهج سلوك شامل على كافة المستويات. وهي قاعدة تربوية أساسية وراسخة من قواعد طريقة السادة بني علوي الحضارمة، عموما أشار إليها محي الطريقة وقطب الدعوة والإرشاد الحبيب عبد الله بن علوي الحداد بقوله:
وواظب على درس القرآن فإن في ***
تلاوته الإكسير والشرح للصدر
إلا إنه البحر المحيط وغيره ***
من الكتب أنهار تمد من البحر
تدبر معانيه ورتله خاشعا ***
تفوز من الأسرار بالكنز الذخر
وكان راهبا عند الوعيد وراغبا ***
إذا ما تلوت الوعد في غاية البشر
بعيدا عن المنهي مجتنبا له ***
حريصا على المأمور في العسر واليسر
*-ترسيخ علوم الشرع من خلال دراسة الفقه والحديث والتفسير، لتلتقي هذه العلوم الأساسية في نفس الفتى وعقله مع حقائق وتعاليم علم التزكية والسلوك المعروف بعلم التصوف حتى ينضبط السلوك في العبادة والذكر والفكر والزهد على قواعد الشرع وتعاليمه.
يقول صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن العطاس رضي الله عنه، عن أسس وقواعد التربية العملية التي تلقاها على يد جده ومربيه الحبيب عبد الله بن حسين بن عمر العطاس، والمتمثلة في العمل وشغل أوقات الفراغ بالمفيد المجدي وإماتة كبرياء النفس وغرورها وتطلعاتها في سن مبكر :
وحين قدرت على الخدمة عند الوالد عبد الله بن حسين بن عمر، استخدمني في الخلا (المزارع) والرعي أول النهار وإذا طلعت البلد (أي من المزارع والرعي) خرجت مع الأخدام (العمال) إلى البئر ننزح الماء للبيت وللمواشي وهي بئر شطون (عميقة) تقارب الخمس والخمسين أو الستين قامة - أي ما يقرب من مائة وخمسين قدم-- وكل واحد من أهل البلد معه زانة (الحبال) التي تعمل من جريد النخل لربطها في الدلو وجلب الماء من البئر بها بدليها جمع دلو وقربها جمع قربة- وذلك لأنه لا يمكن تحسيب الآبار (أي تزويدها احتسابا بوسائل جلب الماء- بالزون والدلا الموقوفة)، وهذا من شدة الوقت وطول السنين والقحط الشديد} وأضاف رضي الله عنه{ فكنت أكابد هذه الرياضة طول النهار مع العري الذي لا يكاد يحصل لي معه إلا الثوب الواحد الذي هو الإزار، وإذا أردت حضور الدرس بعد صلاة العصر عند الوالد حسين - الحبيب حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس- استعرت مسدرة (أي قميص) من بعض الصغار حتى أخرج. ثم بعد المدرس نخرج إلى الخلا (المزارع) بالغنم وللفخطة (تلقيح النخل بلقاحها المعروف) وللحطب. ثم إذا آويت للبيت بعد العشاء نرجع إلى المسجد الجامع ونحيي ما بين العشائين بالتلاوة ثم إذا خرجت ربما نسمر في بعض الأماكن طويلا، ثم بعد السمر نرجع إلى بيت الوالد عبد الله بن حسين ونرقد فيه حتى يقوم هو حين يدخل أول آخر ثلث من الليل، وإذا أحسست به دخل المكان قمت، فلا يتم ركوعه إلا وقد توضأت وابتدأت في القراءة فنحصّل نحو ثمانية أجزاء والربع قبل صلاة الفجر، وربما أدركناه يصلي فنصلي معه، وكنت في بعض الليالي إذا نمت في بعض الأماكن وأتى وقت القيام لهذا المقام، فربما أحسست مع ثقل النوم بداق يدق على الباب ثلاث مرات فأنتبه للمقام} انتهى ص 26و27و28 /1سفينة البضائع.
وفي سياق تحدثه بالنعم العظيمة التي أسبغها مولاه جلت قدرته عليه منذ الصبا، بهدف تربية وتوجيه من سيأتي بعده من أبناء بلده خصوصا وأبناء المسلمين عموما، تحدث رضي الله عنه عن ملكة الحفظ التي تميز بها صغيرا، وحب الشعر سماعا ونظما وحرص جده وشيخه الحسين بن عمر على أن يملا صدره بالقرآن أولا، فقال:
{وكلما سمعت قصيدة أحفظها أو صوتا كذلك أو مأخذا أو سماعا أو مولدا أو أي صوت كان. وكنت أحفظ والحمد لله بالصوت وبالريح وبالطعم مثال ذلك، (أي تذكر ما كان عند السماع الأول من صوت أو ريح أو طعم) وإذا جرت قصة أو قري كتاب أو غير ذلك مع صوت أو رائحة معروفة أو طعم ثم أعيد - تذكر- ذلك الصوت أو تلك الرائحة أو ذلك الطعم مثلا بعد عشر سنين، وما قيل فيه وما قري عن} السفينة ص 30/1.
وكان في صباه قد انشأ قصيدة مدحا، في آخر زوجات جده وشيخه الحبيب الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس، لما كانت توليه به من عطف ورعاية (وهي والدة الحبيب طالب والحبيب الحسن المثنى أبني الحبيب الحسين بن عمر)، وألقاها بحضرة جده وشيخه، فقال له الحبيب حسين بن عمر بعد تمام القصيدة (يا علي أحفظ القرآن واقرأ العلم أولا واترك نظم الشعر -أي قبل حفظ القران ودرس العلم-) قال صاحب الترجمة الإمام علي بن حسن العطاس {وكنت في ذلك السن كثير الملازمة له - أي لجده وشيخه الحبيب حسين بن عمر بحيث أني لا أجد بدا لازما إلا هو -أي الملازمة والصحبة- وكان إذا شرب القهوة (أي الحبيب حسين) يدع في فنجانه فضلة نحو كظمة أو كظمتين (أي جرعة أو جرعتين) لابد من ذلك فأبادر إلى قبض الفنجان منه وأشربه} انتهى ص30و31/1 سفينة البضائع.
وعن الدراسة وتلقي العلم قال رضي الله عنه في السفينة : {ولما ابتدأنا في طلب العلم عند الوالد شيخنا الحسين -بن عمر بن عبد الرحمن العطاس-، كان أول كتاب قرأت فيه عنده هو، "بداية الهداية" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي وكتاب الأذكار للنووي المسمى "حلية الأبرار وشعائر الأخيار"، وكتاب "الفصول المهمة في مناقب الأئمة" لأبن الصباغ المالكي، وسماعات كثيرة جمة ثم أمرني بعد ذلك -أي الحبيب الحسين بن عمر- بالقراءة على أبنه جدي عبد الله بن حسين فقرأت عليه فيه حتى أتممته أي كتاب "الفصول المهمة" ثم أخذت عليه في "منهاج الطالبين" للنووي في فقه الشافعية وهو يشرح لي من المحلي على المنهاج، فلما توسطت في القراءة عليه فيه إلى نحو الفرائض، قال لي الوالد عبد الله المذكور: يا علي إني استفدت من قراءتك عندي، أكثر مما استفدت من قراءتي على مشائخي. ثم ابتدأت في حفظ كتاب "إرشاد الغاوي مختصر الحاوي" لأبن المقري بإشارة الوالد حسين والوالد عبد الله بن حسين، وذلك مع كثرة الأشغال، الحراثة وغيرها من مهمات حوائجه - أي الحبيب عبد الله بن حسين على سبيل المبالغة في ذلك، بحيث لا يخلو لنا وقت إلا وقت المدرس عند سيدنا الوالد حسين. وكان سيدنا الوالد عبد الله يحك -يشدد- علينا في ذلك إلى الغاية، فكان ذلك منه نفع الله به مثل الرياضة لنا، وإذا بدأت له همة ندبني لها مع خادمه أو وحدي، وكنت إذا قضيت ما يأمرني به الوالد عبد الله، أبادر بعد ذلك إلى مجلس الوالد حسين في أي وقت كان}.
نسبه من جهة الأم
--------------------------------------------------------------------
أما والدة الحبيب علي بن حسن العطاس رضي الله عنه، فهي الشيخة الحرة الطاهرة الصالحة العابدة: فاطمة بنت الشيخ أبي بكر أبن الشيخ القطب الشهير شيبان بن أحمد اليتيم بن سهل بن عبد الله بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عامر بن اسحق الهينني. خطبها الحبيب الإمام الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس لحفيده الحبيب حسن بن عبد الله بن حسين "والد الحبيب علي" برسالة منه إلى خالها الشيخ عبد الله بن سهل بن اسحق كان نصها كالتالي:
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم من حسين بن عمر العطاس إلى جناب الشيخ العزيز الأكرم الشيخ عبد الله بن الشيخ سهل بن الشيخ أحمد بن سهل حفظه الله وأتحفه جزيل السلام وعميم الإكرام سطور الأحرف ولا به علم يرفع إلى جنابكم العزيز إلا كل خير وسرور وعافية وعلمنا أن الشيخ أبو بكر بن الشيخ شيبان غائب وقد طالت مدة غيبته وبنته التي بنظركم في المكان وفي حجركم فاطمة بنت الشيخ أبي بكر قصدنا أنها تكون للولد حسن بن الولد عبد الله زواج لأنكم جنس زين ونحب قربكم وصهارتكم لأن صحبة الآباء صلة في الأبناء والجواب عمدة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وسلم على الصنو الشيخ أحمد والكتاب لكم واحد ويسلمون عليكم العيال وسلموا على العيال الجميع والدعاء وصيتكم كما هو لكم مبذول} ص 227 السفينة ج1.
فتشاور المشائخ آل سحق في هذه الخطبة وكان القبول هو الذي اجتمع رأيهم جميعا عليه، وكان زواجا مباركا مشهودا في وقت رحمة ورخاء وعم به الصفاء وتوثيق روابط المحبة والاتصال بين آل العطاس والمشائخ الكرام آل اسحق، وقد تربت والدة صاحب الترجمة رضي الله عنه وعنها في حجر أمها مع إخوانها الأفاضل: شيبان وسهل، بنظر أخوالهم عبد الله وأحمد أبناء الشيخ سهل بن أحمد لسفر والدهم الشيخ أبي بكر بن شيبان الذي لم يعد منه، حيث اختاره الله إلى جواره في تلك الرحلة. كانت والدة الحبيب على بن حسن، رضي الله عنها مثلا عاليا للخلق الرفيع والعفة والزهد والشرف المنيع والعبادة والصلاح والعقيدة الصالحة والمحبة الخالصة الصادقة التي هي طريق الفلاح ومفتاح باب النجاح للحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ولأهل بيته وصالحي أمته، عاشرت وجالست ونالت من أنظار وبركات ودعوات الحبيب حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس، وزوجته الصالحة العابدة: رقوان بنت الحبيب عبد الله بن أحمد الجفري، والدة الحبيب عبد الله بن حسين بن عمر "جد صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن وكافله ومربيه وشيخه" التي توفيت رحمها الله تعالى يوم السبت الحادي والعشرين من شهر شوال عام 1126 من الهجرة النبوية، وعاشرت -أي الشيخة فاطمة والدة صاحب الترجمة- الحبيب عبد الله بن حسين بن عمر العطاس وزوجته الصالحة التالية لكتاب الله أناء الليل وأطراف النهار الشريفة العفيفة، عائشة بنت الحبيب سالم بن عمر العطاس والدة الحبيب حسن بن عبد الله بن حسين "والد صاحب الترجمة رضي الله عنه" وكان عشرتها لهم جميعا -أي الشيخة فاطمة رحمها الله- بالتواضع والمحبة والطاعة وحسن الخلق وصفاء السريرة وقوة العقيدة بل وهكذا كانت مع كل أهل حريضة وكل من عرفها وعرفته، لم تتفوه بكلمة سوء في حياتها على أي إنسان صغيرا كان أم كبيرا حاضرا أو غائبا. فتوفي ذلك الرعيل الصالح الذي سبقها إلى دار الخلود وجميع أفراده رجالا ونساء عنها راضين ولها محبين وداعين، وقد أراد الله له سعادة الدارين بالقرب والقرابة والاتصال من جد الحسنين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، فأوقع لها تلك البشارة والإشارة في قلب نجله الحسين بن عمر بن عبد الرحمن الذي خطبها لحفيده الحسن بن عبد الله بن الحسين. نفعنا الله وأولادنا وأحبابنا بهم جميعا في الدارين آمين. وقد ولدت للحبيب حسن بن عبد الله من الذرية المباركة "شيخة وأحمد وصالح ورقوان "وولد سقط"، وعلي وأبي بكر".
ثم بعد أن رزقها الله بهذه الكوكبة المباركة من البنين والبنات من أحفاد وحفيدات سيد الكائنات عليه وعلى آله وصحبه أطيب الصلوات، ونالت بذلك القصد والمقصود من الكريم الودود بالاتصال والقرابة والقرب الحسي والمعنوي من أهل البيت النبوي، زهدها الله في الدنيا وصرفها إلى عبادته وذكره وشكره، فعزفت نفسها عن الدنيا وملذاتها بالكلية، وزهدت في كل ما لديها من حلي وثياب وزينة ففرقتها على مستحقيها في سبيل الله وابتغاء مرضاته ولبست ثوب الصلاة التي لم تستبدله بغيره من ثياب الزينة حتى اختارها الله إلى جواره، وقالت لزوجها الحبيب حسن بن عبد الله، إنك رجل صغير، وأنا قد قنعت من الدنيا وزينتها، وأريدك أن تتزوج، فراجعها الحبيب حسن في ذلك وأبى، فترجته حتى قبل وقالت له يكفيني هولاء الأولاد منك -وكأنها رضي الله عنها قد أمنت بعد إيمانها وصلاحها وتقواها، بوجود من تقدمه بين يدي رسول الله، من بدور أولاده وبناته التي أنجبت وربت وهذبت، وقالت لزوجها كل ما أرجوه منك أن لا تطلقني لأنني أريد أن ألقى الله وأنا من نساء أهل بيت النبوة ومن زوجات أولاد المصطفى صلوات الله وسلامه عليك، فقال له الحبيب حسن كيف تقولين ذلك وأنا لا أريد أصلا الزواج بغيرك إلا بعد عزوفك عن الحياة الزوجية وتصميمك وعزمك على أن أتزوج بغيرك، فقالت له: قد تطلب منك زوجتك الثانية أن تطلقني، فإذا هي فعلت ذلك، فقل أنك فارقتني أمامها إرضاء لها وأظهر لها أني مطلقة منك حتى يطيب خاطرها. فتزوج بمشورتها زوجته الثانية الشريفة الصالحة "شيخة" بنت خاله أبي بكر بن سالم بن عمر العطاس، فولدت له علوي بن حسن الذي كان كما قال عنه أخوه صاحب الترجمة رضي الله عنه: ولدا صالحا ذا ديانة وصيانة وعفاف ومروءة ونجابة، وقد تزوج ومات وزوجته حامل فولدت له بنتا بعد وفاته فسميت فاطمة.
وقد كانت المسبحة لا تفارق يد الشيخة فاطمة والدة صاحب الترجمة رضي الله عنه وأنوار الوضوء الدائم والصلاة المتصلة مشرقة على محياها، وهكذا حال السعيدات العابدات القانتات اللواتي يختارهن الله زوجات صالحات لعباده الصالحين السعداء. وأمهات فاضلات لأعلام دينه وعلماء شريعة خاتم أنبيائه الأبرار المقربين الأتقياء
وإذا قدر الإله أناسا *** لسعيد فأنهم سعداء
قال عنها صاحب الترجمة رضي الله عنه {وكانت الوالدة المذكورة معروفة عند الخاص والعام بغزارة العقل والمعرفة التامة، والمحبة لأهل البيت النبوي عامة وكافة وخاصة، يظهر ذلك منها بغير مبالاة -أي بالنواصب المبغضين لأهل البيت النبوي- وإذا سمعت من يحط في قدرهم أو ينتقص أحدا منهم قامت له منافحة عنهم وتقول عند ذلك " إن أهل البيت النبوي مثل الشمس لا يزيدها الثناء ولا ينقصها الذم، وقالت لي يوما: يا علي أشهد علي إني أمة رقيقة للسادة أهل البيت، وقالت لبعض الناس: إني أحب السادة وما هو حيث أولادي منهم، بل محبه قديمة، تقبلها الله منها، ثم توفي الوالد الحسين -بن عمر بن عبد الرحمن العطاس- رحمه الله تعالى وهو راض عنها ويثني عليها ويقول: "بكيرة" عندنا أعدل من الرجال، وهذه الكلمة أكبر شهادة من هذا القطب، بل كل من عرفها يقول إنها معدودة بصفات الكمل من الرجال -أي في الحلم والكرم ورابطة الجأش ورجاحة العقل وقوة الصبر واحتمال المكاره- سمعت ذلك من كثير من آل عطاس والأخوال آل اسحق ممن عاشروها وكانت - أي والدة صاحب الترجمة رضي الله عنه و عنها- في بلد "هينن" للسادة آل العطاس خصوصا، مأوى ومقصد في أي وقت وصلوا بليل أو نهار لا تشتغل من ثقلهم ولا ممن جاء معهم ولا من مركوبهم، بل إذا علمت أنهم قصدوا أحد سواها كرهت ذلك ويتكدر خاطرها إلى الغاية والنهاية، وإذا ساروا وجاءوا بعد إليها عتبت عليهم في ذلك، وكانت رحمها الله ورضي عنها من ذوات الإخلاص واليقين وحسن الأدب والمعرفة بما يزين ذوي الإحسان، فكانت رتبتنا من أول النشأة على تعلم القرآن العظيم وكانت تواسي من نقرا عنده بحيث إنا لا نروح إليهم إلا بفرحة، وإن قلّت، وكانت إذا أقبل السحر آخر الليل تقوم ملازمة للذكر وتطبخ في ذلك الوقت قهوة ثم تقول لنا قوموا إلى المسجد وكنا مع صغر السن ريما يدخل المسجد بعض الناس ممن لا يعرفنا فيقول من هذا الأغبر؟ فلم تزل تلزمنا على ذلك حتى أنها إذا علمت أنا تركنا العلمة يوما قطعت علينا الوقعة -أي وجبة العشاء- وتقول ما مني شي لضربك -أي ما أقدر على ضربك- ولكن إذا ما شي علمه ما شي عشاء فنبات لذلك بلا عشاء ولازمتنا على هذا الأدب حتى ختمنا القرآن ببركتها، وكانت أيضا إذا علمت بقراءة مولد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو شي من الحضرات المحضورة بالخير ندبتنا لذلك، وذلك كله مع صغر السن، ومن جملة اعتنائها بتربيتنا أنها أمرتنا في بعض الأيام أن نذهب إلى عند بعض أهل الخير ممن كان يحفظ شيئا من شعر الفقيه عمر بامخرمة نفعنا الله بسره، وكان ذلك الرجل معروف بالحفظ، يحفظ شيئا كثيرا من أقوال الفقيه عمر نفع الله به، ينيف على ألف نشيدة -أي قصيدة شعرية- مع حفظ جملة من الوقائع التي تكون سببا لإنشاء بعض النشائد. وكانت ميقظة لنا ومنبهة ومعلمة ومحصلة النطق والاستحضار -لعله وسريعة النطق- عند غالب المقاصد الدينية فليتنبه ذلك من أراد إرشاد الأولاد إلى سبيل الرشاد، بالجملة فهي نفع الله بها سبب كبير واصل خطير في حصول جملة من الخيرات لنا، قال لي سيدي الوالد الحسين بن عمر -بن عبد الرحمن العطاس- نفع الله به إن معكم ساقية زائدة على العيال، وهي من جانب "هينن" يشير إلى ما حصل ببركة سلفها، وقد قيل في تفسير قوله تعالى "وكان أبوهما صالحا" أنه كانا سابع جد من جهة الأم، كيف وهي بنت القطب الكبير ولي الله: شيبان بن احمد، وكانت رضي الله عنها ورحمها، قد أعطيت من الصبر أقصى عبارة، وتجرعت منه أمر مرارة، وجنت منه أينع ثماره، فكانت لا تجيب على من يؤذيها، وتحتمل الأذى، وتنظم في ذلك الأشعار، ولا تكافئ ألا بزين، وتنهانا عن إقامة النزاع في شي من الدنيا، وخصوصا ما فات وأخذه قريب، وتقول من صبر في ذلك نال من الله أحسن من الذي فات عليه، من موضع غير الموضع، وكانت تأمرنا بكتمان الحوائج والأسرار جدا جدا، وتقول إذا استعنتم بماعون الناس ردوه إليهم قبل يطلبونه منكم الله الله، وحكت لي الوالدة رحمها لله قالت: كنت ليلة في دارنا ببلد "هينن" وهي ليلة سبع وعشرين في شهر رمضان، فرأيت وأنا بين النوم واليقظة، كأن خالي عبد الله بن سهل رحمه الله، قائما وهو يقول: أصحاب كانوا نيام* بين القطف والخيام*والليلة أمسوا قيام*ردوا عليكم سلام. قالت ثم غاب عني، وانتبهت لما يكون في تلك الليلة من ثواب القراءة والتهاليل التي يوهبها الناس لأمواتهم ليلة سبع وعشرين في رمضان، ولها نفع الله بها كلام مليح يفهمه العامة في التعريف بالخير والدلالة عليه، وتأتي به بسهولة من غير تكلف، ولها أشعار تذكر فيها أشياء قبل وقوعها، فتقع كما تذكرها، خصوصا في أولادها، ولما ولد الصنو أحمد وكان سمينا، فدخل يوما على جماعة من السادة وهم في البيت منهم الوالد أحمد بن شيخنا الحسين -بن عمر العطاس- نفع الله بهما، فقال ما لهذا -يعني أحمد بن حسن- مثل قعر المعصرة، على سبيل المزح، فلما سمعته الوالدة قالت فيه أبياتا تذكر فيها إن أحمد هذا سوف يسافر إلى أرض الهند وأنت -تعني قائل هذه المقالة- بحريضة، فاتفق إن الصنو أحمد حفظه الله، وأعاد النظر فيه، سافر بعد وفاة والده، إلى مكة وحج، ثم خرج إلى الأرض -أي إلى البلد- بسبب شي أزعجه، وكدر خاطره، فلم تطب نفسه بالجلوس في الحرم الشريف وهو مكدر الخاطر، احتراما لتلك البقعة الشريفة، وفرارا بدينه، حيث أن الأمر الذي أكلفه على الخروج هو مزاحمة على شي من أمور دينه، ففر منه فراره من الأسد، وكان ذلك بإشارة بعض المجاورين بها من أهل العلم والفضل لما استشاره الصنو أحمد في ذلك، ثم جاء إلى الأرض وأخذ مدة قريبة، بحيث أنه لم يتفق بغالب المحبين، ثم بعد ذلك سافر إلى أرض الهند، وله هناك نحو ست عشر سنة،أو يزيد من حال التاريخ للترجمة، وهو حفظه الله حي الآن متع الله بطول حياته، وقد توفيت الوالدة والصنو أحمد بالأرض المذكورة. وكانت من الصابرات على فراق الأولاد، إذ كانت تعرف أن خيرة الله أحسن لها من خيرتها، ولا تظهر بذلك جزعا ولا غيره مما يعتري النساء من الرقة عند الفراق، بل كانت تقول يا ولدي، إذا عرفت لك مصلحة دين أو دنيا في شي أقصده، وقد كانت تترك ذكر حقوقها وما يجب للوالدة على الولد وتقوم هي بما عليها محتسبة ذلك عند الله، وربما قال بعض الناس: الأولاد ما عاد حد جاء منهم. يريد بذلك كلام منها في جانبهم، فتقول هم أولادي إن قربوا أو بعدوا.
قال ذلك لها جماعة فلما أجابتهم بمثل بذلك، قالوا: ما بقي لنا كلام. وقلت: وهنيئا لها بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، "رحم الله والدا أعان ولده على بره" وقد كان الصنو العلامة الولي النجيب، سيدي أبو بكر بن الحسن، أصغر مني سنا، وهو آخر أولادها فحين استأذنها للحج فقالت: يا ولدي يعسر علي فراقك، ولكن إذا كنت تريد الحج، فلا أتركك تكون عاقا، قد رضيت بذلك، فسر على بركة الله تعالى، وأنت في حل، وقد كان أعز الناس إليها، فصبرت على فراقه، ولها في ذلك أشعار في الشوق إليه، وإلى الصنو أحمد ثم أنه حج بيت الله الحرام وعاد، ولبث مدة يسيرة واستأذنها في العودة إلى مكة، فأذنت له، فسار بسرعة، فلما سافر تذاكرنا فيه فقلت لها إن الصنو أبا بكر استعجل هذه العجلة القوية، فقالت خطته جذبته، ثم بعد ذلك بأيام قلائل قالت لي الوالدة، رأيت كأن أبا بكر طفل صغير، وكأنه سقط من يدي، ووقع في بحر، فلم نلبث إلا مدة يسيرة، فجاءنا خبر وفاته، وكان ذلك ليلة السبت الثاني عشر من شهر رجب الأصب، سنة 1146، بمكان يسمى حوره (لعله أحور) بحاء مهملة من أرض الساحل، وهو متوجه إلى الله، حائزا لثواب قوله تعالى " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" وقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء إلا درجة النبوة" وقد كان رضي الله عنه ورحمه -أي الحبيب أبي بكر بن حسن شقيق صاحب الترجمة رضي الله عنهم أجمعين- يحفظ القرآن العظيم، وأخذ من العلم نصيبا مباركا، وقد حصل بخطه، كتبا وقفها علينا، تقبل الله ذلك منه، وكذلك حصل مصحفا كاملا، ووقفه على جامع بلد حريضة، وجعل النظر لنا في ذلك، والكل ببركتها -أي والدة صاحب الترجمة رضي الله عنهم أجمعين- وزوجت البنات وربت أولادهن وأولادنا بحسن التربية والصبر والمحبة والشفقة، وكانت تجبر نساء أولادها بحيث صرن كأنهن بناتها، بالحنان والشفقة عليهن، وذلك منها بضد غيرها من النساء، فإن العادة منهن إلا البغض لنساء الأولاد، وربما قد سألتها عن ذلك، فقلت لها ما تكرهين نساءنا؟ فقالت: يا ولدي إذا ذكرت سكون خواطركم، ولا يكون ذلك إلا من جهة نسائكم، وإذا لم يوافقن فلا بد من غيرهن، وربما تأخذون من هن أشد منهن -أي من حيث السلبيات البشرية التي لا ينجو منها رجل ولا امرأة من خلق الله- وقد كانت رحمها الله تربي الجبر -المحبة والألفة والاحترام- بينها وبينهن وتوليهن جميع أشيائها ناهيك بالأشياء التي تنسب إلى أولادها، فصارت عندهن أعدل من أمهاتهن. وكانت زبيدة زمانها، وسلطانة أوانها، وواحدة شانها، وفيها العبارة تنطلق لسانها، بقول مشائخها وفرسانها، إذا فكوا أرسانها، كما قال القائل:
ولو كان النساء كما ذكرنا *** لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عار *** ولا التذكير فخر للهلال
بل كانت تزيد على سلطانة بأنها أم السادة وجدتهم، ومحبتهم وتقر بأنها أمتهم، وفي الحديث الصحيح: "من أحب قوما كان منهم" وإن لم يعمل بعملهم.} ص 234 - 243 السفينة ج 1 واستطرد صاحب الترجمة سيدي الحبيب علي بن حسن العطاس رضي الله عنه في وصف الأيام الأخيرة لوالدته الشيخة الصالحة العابدة القانتة قائلا {ثم أن الله سبحانه وتعالى كمل لها الثواب ليحسن لها المآب، فامتحنها في آخر عمرها بعلة غريبة، وهي أنها لا تأكل ولا تشرب ولا تأخذ إلا العسل واللبن، تقريبا من نحو مدة من الزمان، حتى ذهب لحمها، وبقيت عظم عليه جلد، وهي صابرة محتسبة غير شاكية ولا متضجرة، فكانت مدة مرضها المذكور لم تأذِ من يصاليها -أي يقوم برعايتها وتمريضها- ولا تطلب منهم سهر، ولم يعلق سراج، إلا ليلة التعبة -التعب الذي يسبق الوفاة- وليلة الوفاة، وكنت لما رأيت التعبة فيها أردت القعود عندها وترك صلاة الجماعة في المسجد، فقالت: يا ولدي قم فصل جماعة، لا تشغب الناس- أي لا تقلقهم- فإن الذي بايقع عاد ما هو الليلة، فقلت: وأيش هو الذي بايقع؟ قالت: الذي يقدره الله بايكون، فعرفت إنه الموت، وكانت مدة مرضها لم يغب لها ذهن. فقالت ياولدي، "ماهي الا سوابق ما السعادة بالاعمال" فالحمد لله. وقالت لها الكريمة شيخة: إذني لي بالصعود إلى حريضة، فإني قد شغلتكم بالعيال، فقالت لها: زيدي ثمان أيام، فكانت وفاتها يوم الثامن. ومن كلامها ولما قربت وفاتها جعلت تقول: أين النبي أين الفقيه، أين عمر وحسين، وميكائيل وإبراهيم، فقلت لها أيش هذا؟ فأفاقت وتكلمت بكلام ثاني، وقالت بيت من قول الحداد- الحبيب عبد الله بن علوي الحداد- "القضاء تقدم فاغنم السكون*لا يكثر همك ما قدر يكون" وجعلت تلهج بالدعاء والذكر ومن يالطيف ألطف بي، أدعوه ياعيالي يلطف بي، وتكرر الشهادة، وقالت اللهم اجعلنا من السارحين لا الرائحين، فقلت لها قولي: "إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين" وتوفيت، وباتت في البيت، وحزن عليها الناس حزنا شديدا، لاسيما المشائخ الأخوال، فإنهم تعبوا عليها، ولكن ردوا أمرهم إلى الله، وباتت عليها قراءة القرآن إلى الصباح، وكان غسلها في البيت، وذلك بعد صلاة الفجر، وخرجنا بها في جمع عظيم، وصلينا عليها في برية، ودفنت بعد شروق الشمس، في يوم الأحد في سنام الحثم، قبلي قبر جدها الشيخ شيبان وأبويه وأخوه، والشيخ عبد الرحمن -أي الأخضر باهرمز القطب الشهير والولي الكبير، شيخ الفقيه عمر بن عبد الله بامخرمه- فالله يتقبلها ويسكنها بحبوح جنته آمين} ص 245-247 السفينة ج1.
وكانت رضي الله عنها بعد وفاة زوجها الحبيب حسن بن عبد الله وجده الحبيب حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس تميل إلى السكنى ببلد "هينن" مسقط رأسها وموطن أهلها ومعها الصغار من أولادها كالحبيب علي صاحب الترجمة والحبيب أبي بكر بن حسن، ولا تأتي إلى حريضة إلا للزيارة والتماس الدعاء من صالحي أهلها، وكان أخوها الشيخ سهل بن أبي بكر يقول لها: مالي كله بين يديك أنفقي منه ما تشائين على أولاد الحبيب حسن بن عبد الله وما زاد منه فلأولادي، وكان يولي أخته وأولادها عطفا ومحبة ورعاية منقطعة النظير: قال عنه صاحب الترجمة رضي الله عنه {وكان مسرور بنا في البيت إذا رآنا انبسط انبساطا تاما ورأينا السرور الكامل في وجهه جزاه الله خيرا ومتع به وجعل جزاءه على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والسلف الصالح آمين، وكان أخوها سهل المذكور من العارفين بالله الراغبين في ثواب الله ليست له الدنيا ببال ولا لها عنده قرار ولا تأخذه في الله لومة لائم بل كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر يواجه الظلمة بالإنكار عليهم، وكان كثير الصدقة والإحسان وفعل الخيرات والتصدي لصلاح المساجد والآبار ينفق على صلاحها من خالص ماله لله تعالى، وكان الخال سهل المذكور يحب الوالدة محبة أكيدة صادقة ويجبرها ولا يكدر عليها ويؤثرها بماله ولا يراجعها في شي ينسب إليه} ص 233 و 234 السفينة ج1.
وتجدر الإشارة إلى أن للشيخ عبد الله بن سهل خال والدة صاحب الترجمة رضي الله عنه وأخيه الشيخ أحمد بن سهل والشيخ ابي بكر بن شيبان، والدها، بعد سلفهم الصالح، اتصال بالحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس وكانوا لا يكفون ولا يغفلون عن زيارته وتلقي وقبول إشارته في جميع مهماتهم، ولا يقومون بأي عمل ديني أو دنيوي إلا بعد أخذ رأيه الميمون، ومن أمثلة ذلك أنهم كانوا يقرؤون راتب الشيخ أحمد بن سهل في مسجده القديم بالحوطة "بهينن" وراتب الشيخ عبد القادر الجيلاني في الحزم "بهينن" ليلة الجمعة والاثنين معا، فشق ذلك على من أراد حضور الراتبين من أهل البلد فشكوا ذلك إلى الشيخ أحمد بن سهل والشيخ أبي بكر بن شيبان فساورا إلى حريضة لزيارة الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس ولطلب رأيه ومشورته في ذلك، فلما عزموا من بلد "هينن" لهذه الغاية علموا أن الحبيب عمر بن عبد الرحمن ببلد "حوره" فاتجهوا إليه وبعد وصولهم إلى حضرته الشريفة ذاكروه في أمر قراءة الراتبين، فقال لهم: اجعلوا راتب الجيلاني بالأحد والخميس، وراتب الشيخ أحمد بالاثنين والجمعة، ويكون هذا شرب وهذا زحي، فامتثلوا ذلك، أما جد والدة صاحب الترجمة رضي الله عنه، الشيخ شيبان بن أحمد (تلميذ الشيخ أبي بكر بن سالم مولى عينات). ووالدها الشيخ أبو بكر بن شيبان: يقال له المظوفر، لأنه لا أظفار له في يديه ولا في رجليه، توفي بمدينة الأحساء (في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية حاليا) هو وعمه المهاجر العلامة: سهل بن أحمد سهل، وهو جد والدة صاحب الترجمة رضي الله عنهما من جهة الأم، لأن أبنته شيخة بنت سهل بن أحمد هي أم والدة صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن رضي الله عنهما. وأخوها الشيخ سهل بن أبي بكر بن شيبان (خال الحبيب علي بن حسن) من الصالحين الأفاضل العلماء العاملين، وأهل الكرم والمعروف والمواساة. ص5و6و9 من السفينة.
توفيت الشيخة فاطمة بنت الشيخ أبي بكر بن الشيخ القطب الشهير شيبان بن أحمد بن سهل بن عبد الله بن سهل بن عامر بن اسحق "والدة صاحب الترجمة رضي الله عنه" بعد العشاء الأخير ليلة الثلاثاء الخامس من جمادى الآخر عام 1153 هجرية
شـــيــخ الـفــتــح والإرادة
--------------------------------------------------------------------
تربى الحبيب الإمام علي بن حسن بن عبد الله بن حسين بن عمر العطاس وتأدب بجده الحبيب العلامة الصالح، الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس المتوفى بمدينة حريضة بحضرموت عام 1139 من الهجرة، ومنه تلقى علوم الشريعة والطريقة، وأخذ منه الإجازة والتلقين والإلباس والمصافحة وسند الصحبة، كما أورد ذلك في منظومة أخذه، وسنده، وذكر مشائخه، بقوله:
سَــمِعْ ســـائلي عـن سِلكِ إسناد سادتي
وشـــيـخي فــــي تــــلقينِ قولِ الشهادةِ
وعن من لبستُ الصوفَ مِنْهم من الذي
بـــهـــم أقـــتدي فــــي عادتي وعبادتي
ومـــن كـــان تـــخريجي بـــــهم وتأدبي
وعـــنـــهم بـــحـــمد الله صَحّتْ قراءتي
فــــإني أُدّعـــــى فـــــي الأنـــامِ وأقتدي
بـــشـــيـــخ الـــمـلأ سلطان أهل الولايةِ
حـــــسينٍ أبـــــي الإحــسان إنسان وقته
لـــه رايــــةٌ تـــعـــلــو عـــلـى كلِ رايةِ
عـــــنيتُ بــــه العـــطاس بن عمر الذي
هــــو الــمُنتــــهى لأهل النُهى والنهايةِ
وشرح ذلك تفصيلا في كتابه سفينة البضائع بقوله:
وكنت لما ختمت القرآن العظيم على المعالمة "المدرسين" المذكورين رحمهم الله تعالى، كما تقدم قريبا، أمرني الوالد حسين بالقراءة، والحمد لله الحمد لله الحمد لله، في العلم الشريف، فقرأت عليه بداية الهداية، لحجة الإسلام الإمام الغزالي، وكتاب الأذكار للشيخ محي الدين النووي، وكتاب الفصول المهمة، لأبن الصباغ المالكي، وحصلت لنا بحمد الله بشارات جميلة، وإشارات جليلة، ونفحات جزيلة، من سيدنا وشيخنا الوالد الحسين المذكور، نفع الله به، وذلك أنه لما أمرني بالقراءة في شي من الكتب المذكورة، حصل من بعض الدرسة الملازمين إنكار في ذلك، وقالوا إن عليا صبي صغير، ولا قده حله يقرأ في الكتاب المذكور، وقالوا من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ظانين أن من قرأ في كتاب من كتب الصوفية فقد صار من جملة الصوفية، أو قرأ في كتاب من كتب الفقه فقد صار من الفقهاء، وهيهات، إنما الصوفي من صفا باطنه من الغش والحقد والحسد وسيئ القول والعمل والنية والمعتقد، وإنما الفقيه العالم بأحكام الشرع، هو الذي يخشى الله ويتقيه، ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر: 28] ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(52) )[النور]. واستمر منهم الإنكار ثلاثة أيام، وخشيت أنا أن يصدقهم شيخنا، فلما كان اليوم الرابع غضب عليهم غضبا شديدا، وقال لهم: هه هه هه، بماذا عرفتم عليا ما هو حله يقرأ في تلك الكتب، وتكلم بكلام فيه من الثناء على المملوك ما لا يمكن ذكره، فلله الحمد والثناء، وقد كرهت كلام أولئك المنكرين أولا لما ابتدءوا يتكلمون، ولكن لما حصل بسببه "أي بسبب كلامهم" ما حصل من الثناء من شيخنا، حمدتهم، فجزاهم الله خيرا من حساد، لقد كانوا سببا في حصول هذا الخير الجسيم، من هذا الإمام العظيم، وقد قال الله تعالى ( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )[النساء: 19]. وسمعت أيضا عند شيخنا "أي الحبيب الإمام الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس" الكثير من الكتب التي تقرأ عليه وأنا حاضر، وإليه ناظر، منها: كتاب معالم التنزيل، تفسير الإمام البغوي، ومنها كتاب الرسالة للإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري، وشرحها للشيخ زكريا بن محمد "الأنصاري" ومنها كتاب البهجة "بهجة المحافل" في السير للإمام يحي بن أبي بكر العامري، وكتاب شرح الحكم للشيخ الكبير محمد بن إبراهيم بن عباد النفري الرندي، وغير ذلك} انتهى من السفينة ص 35-37/1.
وقال صاحب الترجمة رضي الله عنه وأرضاه، في موضع آخر من كتبه سفينة البضائع: {وقد سمعت من والدي وشيخي الوالد حسين جملة من المصنفات التي قرئت عنده بحمد الله وأنا حاضر ومنها راتب الحبيب عمر -بن عبد الرحمن العطاس- الذي هو السر الأعظم، وفضل الله الذي خص وعم، وهو عزيز المنال، وفتح باب الوصال، وهو أعد ما نعتد به، وأمد ما نمتد به، وقد حضرنا قراءته معه على حسب المأخذ -الطريقة- الذي يأخذ فيه الوالد عمر -بن عبد الرحمن العطاس- ثم هو -أي الحبيب حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس- والحمد لله، وسمعنا عنده غالب تفسير البغوي وشرح رسالة القشيري، وشرح الحكم لأبن عباد، وبهجة المحافل، للعامري، وشرح الهمزية لأبن حجر، وقرأت عليه في بداية الهداية للغزالي، والأذكار للشيخ النووي وكتاب الفصول المهمة لأبن الصباغ المالكي، في مناقب الأئمة الاثني عشر، وطلبت منه تلقين كلمة التوحيد، وإلباس الخرقة والمصافحة، فحصل ذلك منه بحمد الله تعالى على حسب القاعدة من صيام الثلاثة الأيام وغسل التوبة في الرابعة وصلاة ركعتي التوبة وغير ذلك بحمد الله، وإنه لما توفي شيخنا -أي الحبيب حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس- لزمت بعده -أي في طلب العلم- أولاده المشائخ الأربعة، وهم أحمد وعبد الله وعلي ومحسن} ص202 و203 السفينة ج1. بتصرف.
توفي سيدنا الإمام الكبير الحبيب الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس رحمه الله تعالى بمدينة "حريضة" ليلة الخميس في نصف الليل، منتصف شهر جماد الآخر سنة 1139 هجرية ، وعمر صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن العطاس في ذلك الوقت سبعة عشر عاما
عـــلاقـــة مـتــمـيــزة
--------------------------------------------------------------------
لقد كانت للإمام الحبيب حسين بن عمر العطاس، رعاية خاصة، وعناية فائقة بحفيده وتلميذه الحبيب علي بن حسن، الذي توسم فيه مبكرا بشائر النجابة وعلامات البركة والسعادة، ودعا له بالمكان المرموق والقدم الراسخ في العلم النافع والعمل الصالح والسلوك الحميد، فاستجاب المولى جلت قدرته بفضله وكرمه دعاء عبده الصالح، الحسين بن عمر العطاس، فصار حفيده وتلميذه الحبيب علي بن حسن فارسا في ميادين العلم والكرم والإصلاح والعبادة لا يُشَقُّ له غبار
فالعناية المتميزة والثقة المبكرة التي يوليها الشيخ المسلّك في علو م الشريعة والطريقة، لأحد تلامذته ومريديه، سواء جمع هذا التلميذ المريد، بالشيخ عامل النسب والانتساب، أو الأخير فقط، ظاهرة شهدناها في أسمى صورها وأمثلتها بين الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وخليفته الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم توالت الأمثلة القريبة والبعيدة عبر التاريخ الإسلامي المشرق، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما كان بين الإمام علي بن أبي طالب وتلميذه الحسن البصري، والإمام أبي حنيفة النعمان والقاضي أبي يوسف، ثم الإمام أبي الحسن الشاذلي وتلميذه الإمام أبي العباس المرسي، وفي المدرسة الصوفية الحضرمية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر أيضا، الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي والشيخ سعيد بن عيسى العمودي، الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن علي والشيخ أبي بكر بن سالم، الحبيب الشيخ الحسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم والحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس، الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس والشيخ علي بن عبد الله باراس، الحبيب علي بن حسن العطاس (صاحب الترجمة) وتلميذه الحبيب جعفر بن محمد العطاس.
وفي القرنين الماضيين نذكر على سبيل المثال لا الحصر أيضا، الحبيب هادون بن هود العطاس والحبيب صالح بن عبد الله العطاس، الحبيب صالح بن عبد الله العطاس والحبيب أحمد بن حسن العطاس، الحبيب أبي بكر بن عبد الله بن طالب العطاس والحبيب علي بن محمد الحبشي، الحبيب أحمد بن حسن العطاس والحبيب عبد الله بن علوي العطاس. والحبيب عبد الله بن علوي العطاس والشيخ محمد بن صالح جوهر.
وغني عن القول أن لكل شيخ من هولاء المشائخ الصالحين الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم ونفعنا بهم في الدارين، الجم الوفير من التلامذة والمريدين الذين كانوا رضي الله عنهم على درجة عالية من العلم والصلاح والتقوى والانتفاع بشيوخهم حسيا ومعنويا دون شك أو ريب، غير أن عناية متميزة قد اتجهت وفي وقت مبكر لمن ذكرنا من التلامذة والمريدين ربما بدافع من الشفافية الروحية المشتركة التي ربطت بين الشيخ والتلميذ في الأزل ، أو بسبب من التجاوب الذهني الذي يتعدى التلقين والتقرير إلى النظر والإشارة والصمت ذي المعنى في التعليم والانتفاع،أو بالتفاني والطاعة المطلقة مع الانقطاع التام في الخدمة والاستفادة، أو بمنة من المنن الإلهية الخاصة التي يسبغها المولى جل شأنه على هذا التلميذ بتغييب وطي بشرية شيخه لديه وبشكل كامل في خصوصيته -أي الشيخ- ومعارفه وأنواره، أو بنور البصيرة الذي يرى من خلاله الشيخ المربي أن تلميذه هذا أكثر استعدادا للسلوك والوصول والقرب فتتبدى حقيقته وقدراته لشيخه في وقت مبكر.
هذه العناية المتميزة، والثقة المبكرة، والاهتمام الحسي والمعنوي الملحوظ، هي التي ربطت بين الشيخ الجد الحبيب الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس وتلميذه وحفيده الحبيب علي بن حسن بن عبد الله بن حسين بن عمر العطاس، لعله بسبب من بعض هذه العوامل التي أشرنا إليها آنفا، أو بها جميعا أو بعوامل وأسباب أخرى ربما قصرت معارفنا المحدودة والضيقة عن إدراكها والتعرف عليها، لفقرنا المدقع من قبسات أحوال وأنوار تلك النجوم الزاهرة والوجوه النيرة الساطعة راجين من الباري الكريم جل شأنه أن يجعل مددنا منهم على قدر كرمه وجوده وفضله، وعلى قدر ما مدهم به من عزم واستعداد على العطاء لا على قدر قلوبنا الدرنة الضعيفة أو نفوسنا الإمارة بالسوء، وكما قال الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم***وتأتي على قدر الكرام المكارم
يقول الحبيب علي بن حسن العطاس رضي الله عنه في وصف تلك العناية المتميزة والثقة المبكرة، التي أولاه بها شيخه وجده الإمام الحسين بن عمر العطاس:
{ولنا منه نفع الله به -أي الحبيب الحسين بن عمر العطاس- بشارات وإشارات في حياته وبعد مماته، منها ما تقدم من جوابه على الجماعة الذين حصل منهم الإنكار عليه حين ألزمني القراءة في الكتاب المتقدم ذكره "ويقصد به كتاب الفصول المهمة في مناقب الأئمة، لأبن الصباغ المالكي"، ومنها أن الصنو العلامة الصوفي فخر الدين أبا بكر بن الوالد حسن رحمه الله تعالى، رأى في بعض المنامات كأن الوالد عمر بن عبد الرحمن العطاس يمشي على سبيل مستقيم وكأني أنا عن يمينه، والوالد عمر ممسكني بيده، وممسك الصنو أبي بكر بيده الأخرى وهو عن شماله، وكأن جماعة من الناس يرجمون إليه وإلينا بحجر، ولا يصيبنا منه شي، فقلت للصنو أبي بكر المذكور ونحن ببلد حريضة "والحبيب الحسين ببلد نفحون": أذهب إلى الوالد الحسين وقص عليه هذه الرؤيا، فقال: كيف أرجع اليوم لأجل قص الرؤيا وأنا بالأمس فقط قد وصلت من حضرته؟ فقلت: لابد لك أن ترجع لأن هذه الرؤيا عليها عمدة، فامتثل الأخ المذكور ورجع، فلما وصل إليه وهو ببلد نفحون، قال له -أي الحبيب الحسين بن عمر- بعد أن قص عليه الرؤيا: أنت وصنوك علي تسلكون طريقة الوالد عمر إن شاء الله تعالى، ولم يفسر لهه بقية الرؤيا، فلما كان بعد مدة من وفاة شيخنا الحسين المذكور، ظهرت علامة صدق الرؤيا، وذلك أنه حصل علينا الأذى من الجماعة الذين رآهم الصنو أبو بكر يرجمون بالأحجار إلى الوالد عمر وإلينا، فبدت فيهم العداوة والبغضاء والجفاء والقطيعة ومساعدة من يعادينا ومقاطعة من يوالينا، وذلك من غير سبب ظاهر منا، ولا دعوى ولا طلب حق لهم، وإنما هم مبطلون علينا بطلا ظاهرا حتى آل الأمر إلى أن هجرنا البلد -أي حريضة- بالكلية، -أي إلى الهجرين- فلم يكفهم ذلك، حتى وصلنا آذاهم بعد الهجرة من البلد، وقد أشرت -إلى ذلك- بقولي شعرا: وفررت من بلدي فرارا منهم فوجدتهم خلقوا بكل بلاد} انتهى ص 49و56/1سفينة البضائع.
واستطرد الحبيب علي في وصف العناية المتميزة التي يوليه بها شيخه وجده الحبيب الحسين بن عمر فقال: {فصل، ثم بحمد الله حصلت الإشارة من شيخنا الحسين المذكور على لسان بعض المحبين له ولنا، المنسوبين إليه، أن طلبت تلقين التوحيد وتمكين عصبة الحبل المتين السديد الشديد، فقد قال لي ذلك الإنسان جزاءه الله خير الجزاء من الإحسان: أطلب من حبيبك حسين تلقين الذكر ولباس الخرقة الصوفية، ففرحت بكلام ذلك الإنسان توفيقا ولطفا من قديم الإحسان وعظيم الامتنان، وقلت لشيخنا أريد منك تلقين الذكر ولباس الخرقة أو كما قلت، فقال أتقدر أن تصوم ثلاثة أيام؟ فصمتها وذلك في أيام الصِبا وسنّي ثلاث عشر أو أربع عشر سنة، وهي أيام زمان عنيد وقحط شديد في بلد حريضة خاصة، وكان فطوري من عنده، تمرا من تمر "حَجْرْ" لأن التمر لا يوجد في تلك السنة المُجدِبة، فكنتُ إذا كان آخر العشية آتي إلى عنده فأجده قد خبأ لي الفطور تحت مُصلاّه} ثم استطرد الحبيب علي حسن قائلا ما نصّه: {فلما عبرت تلك الأيام الثلاث وجئت إليه بأمره في اليوم الرابع وقت صلاة الضحى قبل أن يصليها، أمرني أن اغتسل وأنوي به غسل التوبة وقال صلّي بعده ركعتين وانوها ركعتي التوبة ففعلت ما أمر به في مصلى البيت الشرقي من بيوت داره بحريضة، ثم جئته وهو في بيته النجدي، فوجدته حين فرغ من صلاة الضحى فجلس متربعا ووجهه إلي وأنا مستقبل القبلة، وتحته الجودري "الفرش" المذكور أولاً، فوضع يده على رأسي ولقنني بكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وعلمني النفي والإثبات، وقال لي قلبك هاهنا في شقكَ الأيسر فإذا نفيت بلا إله فالتفت إلى شقك الأيمن وإذا اثبتَّ بالله فالتفت إلى شقكَ الأيسر الذي فيه قلبك، ووضع إصبعه الشاهدة على قلبي، فالحمد لله والشكر لربي وأبي "أن اشكر لي ولوالديك" "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحسانا ". وألبسني طاقيته وأخذ مني الطاقية التي على رأسي فوضعها على رأسه، وقال أنت منّا وإلينا أو قال منّا وفينا وهذا إلا زيادة، فلله الحمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، وهذا مع صُغر السن منّي إنما هو بجاذب العناية السابقة من الله تعالى على يد كبير أهلي} انتهى ص50-52/1سفينة البضائع.
وأقول أنا خادم هولاء القوم ومملوكهم أن شاء الله العبد الفقير إلى الله مصطفى بن عبد الرحمن بن عبد الله العطاس: قد وفقني الله له اله الحمد والشكر والمنة، إلى الإشارة إلى هذه الحقيقة التاريخية في قصيدتي المتواضعة التي امتدحتُ بها سيدي الإمام الحبيب علي بن حسن العطاس، والتي مطلعها (على عتبات الفضل نغم اللقاء يحلو***وأنس التداني بين أركانها يصفو) وألقيتها في الحفل العلمي السنوي الذي يقام ضمن وقفة المشهد في مدرسة المؤسس عام 1412 هـ فقلت:
حـــبتهُ يـــد الحـــبر الحــسين ببيعةٍ
عـــلى نــهـج قـومٍ عند خالقهم جلّوا
أتاه منادي السعــــدِ في ميعة الصِبا
وقـــدمـهُ بــالذوق في ركب من لبّوا
فلازم محراب الحسين وقــــال فــي
صـــفــــاءٍ اجزني إن قلبي بكم مملو
تفرس فيه الشيخ تناسب دمـــــــعـةٌ
عـــلى خده من أعين بالرجاء تشدو
وقـــال أنــلـنــي الكفَ والهامةَ التي
إلـــى قــــــاب قوســين بهمتها ترنو
علي أنت مني خذ علومي ومسندي
ومـــصبــاح نورٍ في يمينك لن يخبو
أجز من تشاء عني فأنت مخصــصٌ
بـــذا بــين أولادي وبالصبر فلتسمو
وكان الحبيب علي يرجع إلى شيخه ومربيه في كل ما يمر به يقظة ومناما، قال في السفينة:
{وقلت مرة لشيخي الوالد حسين المذكور، أني رأيت في المنام كأني على منارة الجامع وكأني اوأذن أذان الصلاة، فقال: تحج إن شاء الله إلى بيت الله الحرام، وكأنه أخذ هذا التأويل من قوله تعالى ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ )[الحج: 27] الآية} ص48/1سفينة البضائع.
وعن رؤيا معبرة عن عمق العلاقة الروحية والعلمية بعد النسبية والحسية، وعن ذلك المدد العظيم الذي أنعم الله به على صاحب الترجمة سيدي الإمام علي بن حسن العطاس رضي الله من ذلك البحر المحيط سيدنا القطب الكبير الحسين بن عمر بن عبد الرحمن قال صاحب الترجمة رضي الله عنه: {وقد رأيت في بضع المنامات الشيخ علي بن عبد الله باراس، وكأنه جاء إلى حريضة في جماعة من أصحابه الذين أخذوا عنه، وجماعة من أولادهم والمنسوبين إليهم، وكأنه في مظهر عظيم ومقام فخيم، وكأني جئت إليه للزيارة والمصافحة من جملة السادة، فلما وقع نظري عليه وقع في خاطري، هل أطلب التلقين منه والإلباس أم أتأدب مع شيخنا الوالد الحسين وأكتفي بالأخذ عنه؟ فأجابني الشيخ علي عن ذلك الخاطر وقال يكفيك الأخذ عنه} ص 48 السفينة ج1.
وإذا كان حسن الظن بعباد الله واعتقاد الخير والصلاح وحسن الطوية في الأقران وأهل البلدة من كافة الشرائح الاجتماعية، واستنباط المعاني الجليلة، والمقاصد الحسنة الجميلة، والمشارب السامية الرفيعة في ما يصدر عن أبناء الوطن الواحد والمجتمع الفاضل من قول أو فعل، هي السجايا التي فطر عليها الحبيب الإمام الحسين بن عمر العطاس دون تكلف أو تعمل، فقد حرص طيب الله ثراه على غرسها في أبنائه وأحفاده وتلامذته، ليكونوا دعاة أخوة ومحبة في الله وتواضع ومساواة، وعلم وتعليم
يقول الإمام علي بن حسن العطاس في الرمز إلى ذلك ما نصه:
{واتفق لي أيضا أني كنت ذات ليلة خرجت إلى حرث البلد، المسمى التجروب، فلقيت الشيخ سهل بن الشيخ محمد باسهل، وكان من أهل الخير والصلاح والدين، فقال لي: إن هذا شهر رمضان قد هل، ونحن نقوم فيه في مسجدنا، -أي مسجد المشائخ آل باسهل بحريضة- وإني أريدك أن تكون عندنا مدة الشهر المبارك، وربما قال لي: ومعنا تمر صدقة المسجد المذكور، نعطيك منه شيئا، عيّنه لي، فعند ذلك غضبت عليه وأجبته بكلام فيه خشونة، وأنفت منه لما ذكر لي ذلك المسمى من تمر صدقة المسجد، فقلت له: أتريد أن تكون طاعتي وقيامي في شهر رمضان بأجرة من الدنيا؟ فحصل له من الشاغل من جوابي ما كدر عليه، أيضا فوصلت المكان الذي أردته وأتيت بشي من الرمام"العشب" من مال سيدي الوالد عبد الله "بن حسين بن عمر العطاس"، ثم رجعت مسرعا كعادتي إلى البلد ووضعت الذي معي من الرمام "العشب" في بيت الوالد عبدالله، ثم قصدت حضرة شيخنا الوالد الحسين "بن عمر بن عبد الرحمن العطاس" وذلك آخر العشية، لأني أجده في ذلك الوقت وحده ليس أحد عنده إلا الله وحده، لأن غالب الناس بالخلا "بالمزارع" لاشتغالهم بأسباب الحرث، فلما جلست عنده أظن أنه سألني أو أنا بدأته، فأخبرته بكلام الشيخ سهل بن محمد المذكور، وما كان من الرد عليه، فقال: قم هذه الساعة واطلب الشيخ سهل، فإنك ستجده مشغول من جوابك، وقل له يقول لك الوالد حسين الكلام صواب. فقلت له: إنه يريدني أكون معلما -على سبيل الاستنكار مني من ذلك- فقال: ألم تعلم أن الله إذا حب عبدا جعله قيم مسجد؟ فقلت: إنه يريد أن آخذ منه أجرة على الطاعة. فقال: إن أم موسى لما طُلِبتْ لإرضاع ولدها موسى عليه السلام، شرطوا لها أجرة على ذلك فقبلتها منهم، وإنما مرادها بذلك التوصل إلى إرضاع ولدها، أو كما قال، فخرجت من عنده وجئت إلى عند الشيخ سهل، وأخبرته بكلام الوالد حسين، ففرح وزال الشاغل عنه، فقمت عنده في المسجد تلك السنة والتي تليها والتي تليها إلى ما شاء الله، أعني في شهر رمضان فقط، فلما كان في بعض الأيام وكان يوم جمعة، جاء إلى شيخنا الوالد حسين المذكور رسول من عند إمام المسجد الجامع، وجاء بالخطبة وقال إنه غائب أو به مرض وهذه الخطبة، خلّوا من شئتم يخطب بالناس، فدعاني الوالد الحسين لأخطب بالناس، وكنت أنا وهو وجماعة من الطلبة، وقال: خذ الخطبة واخطب، فأخذتها ولم أراجعه، فقال إنسان من الحاضرين: إنه صبي ولم يبلغ، فقال له "أي الحبيب حسين بن عمر" ما على بالك أن إمامة الصبي في الجمعة جائزة إذا لم يكن من الأربعين، فمن يومئذ خطبت في المسجد إلى مدة ثلاث عشرة سنة "13"} انتهى ص 38و39/1 سفينة البضائع
بعض من أخذوا عن سيدنا الحبيب القطب الكبير الحسين بن عمر العطاس
--------------------------------------------------------------------
كان والده القطب الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس يأمر جماعة ممن يأتون للأخذ عنه بالأخذ عن سيدنا الحبيب الحسين بن عمر، وممن أخذ عنه:
السيد الشيخ عمر بن عبد الرحمن البار باعلوي والسيد عمر الحامد باعلوي والسيد محمد بن زين بن سميط باعلوي والسيد عبد الله بن جعفر مدهر باعلوي، أخذ عنه بالمكاتبة من بلد "سرت" بالهند، كما ذكر ذلك في رسالة لصاحب الترجمة رضي الله عنه، من الهند إلى حضرموت في نحو الكراس، والتي سماها "لمعة النبراس من إشراق العلم العطاس" وهي جواب مكاتبه من صاحب الترجمة، بعد سفره من حضرموت، ومروره بدوعن والغيل، إلى الحرمين الشريفين، وبعد زواجه بدوعن بالشريفة العفيفة المنورة الفاضلة "شيخة بنت أحمد بن أبي بكر مدهر علوي، بواسطة الحبيب عمر بن عبد الرحمن البار حيث سافر بها معه إلى الحرمين الشريفين والشيخ عمر بن عبد القادر العمودي صاحب قيدون والشيخ سعيد بن عبد الله باعشن صاحب الرباط والشيخان محمد وعبد الرحمن أبناء الشيخ علي بن عبد الله باراس وغيرهم مما لا يحصى عددهم.
مشائخه، ولقاءاته بعلماء وصالحي عصره
--------------------------------------------------------------------
الأخلاق الإنسانية الرفيعة التي تزرعها علوم ومناهج التزكية والسلوك في نفوس طلبة العلم والدعاة إلى الله على بصيرة، والمتمثلة في السمو النفسي والشفافية الروحية والتجرد من أوضار المادة ومن التنافس على الجاه والحطام ، تؤدي في الغالب إلى اختفاء عاهات التفرقة وأمراض التعالي التي يصنعها الجهل والطمع والتنافس بكل صورها وأشكالها، وإلى إسقاط كل الحواجز والموانع المرضية الصغيرة التي تقوم في نفوس من ران الحسد والغيرة والشك على قلوبهم وعقولهم ، لتجعل الأخلاق الإنسانية الرفيعة من أهل هذا النهج العظيم فريقا إسلاميا وإنسانيا واحدا يعكس صورا حية لأخلاق الأنبياء وأصحاب الرسل المخلصين الصادقين عبر توالي العصور واختلاف الأمكنة والمنازل. والذي يلحظه المتابع لسير وسلوكيات علماء وأعلام التزكية السلوك أن قواعد ثلاث رئيسة تحكم تلك السير والسلوكيات وتبرز بجلاء في كل معاملاتهم قولا وفعلا. ويمكن لنا أن نجمل هذه ا لقواعد في:
أولا - إن الشخص من هولاء القوم لا يرى فيمن حوله من هو أقل شأنا وأهون مكانا ومكانة من نفسه الأمارة بالسوء عند الله وعباده، ومن تشبعت نفسه بهذه الحقيقة ونظر إليها بهذا المنظار، لا يجد الكبر والغرور والتعالي طريقا إليه، ولا تتعدى نظرته إلى من حوله إطار الظن الحسن والاحترام الكامل والمحبة الخالصة، والرغبة الصادقة في التعاون الإيجابي المثمر على البر والتقوى لما فيه خير بني الإنسان في كل زمان ومكان. ويظل طول حياته متعرضا لنفحات الله وفي ترق دائم بفضل الله في مقامات القرب واليقين، لأن من عرف في نفسه النقص والقصور تطلع أبدا إلى ألطاف الرحيم الكريم الغفور، ومن اعتقد فيها بلوغ الكمال، زلت به القدم في مهاوي الضلال، واسلس قياده لعدوه الأزلي إبليس اللعين يستدرجه إلى غضب الله ومقته ليصير كالذي تهوي به الريح من مكان سحيق.
ثانيا : إن التواضع الإيجابي الصادق، هو فلسفة حياة الفرد من هولاء الأعلام، ومن تواضع صادقا لله ولعباده رفعه ونفعه ونفع به، وكان الله عنده في كل أحواله وحركاته وسكناته، جاء في الحديث القدسي ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ). يقول العارف بالله الإمام أبن عطاء الله الإسكندري في الحكم "أدفن نفسك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه".
ثالثا : الاعتراف بالفضل لأهل الفضل، بعيدا عن كل أشكال الحسد والغيرة والكبر وغمط الفضل والخصائص " قال سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: ( الكبر نكران الحق وغمط الناس ).
"أن الفضل لا يعرفه لأهله إلا ذوو الفضل" ومن كان نهجه التواضع وسلوكه الاعتراف بالفضل لأهل الفضل، يحجب الله عنه بشريات الصالحين من عباده ويطويها في خصوصياتهم فلا يرى فيهم إلا أقصى ما يصل إليه الكمال الإنساني، كي يمن عليه جلت قدرته بالنفع والانتفاع بهم حسيا ومعنويا ويجعله منهم ومعهم في الدنيا والآخرة.
وإذا كنا نجد تأكيدا مستمرا على الأنصاف والاعتراف بالفضل لأهل الفضل في مؤلفات الإمام علي بن حسن العطاس، وفي كلامه المنثور والمنظوم، وربطه بين التمزق والتخلف والجهل وبين غياب الأنصاف في العديد من الأمثلة والوقائع. فإننا نلمس أيضا حرصا غير مسبوق لدى هذا الإمام الجيل على تطبيق هذا المبدأ الأخلاقي الرفيع في مؤلفاته وقصائده ورسائله.
ونزعم بعد دراسة متأنية لكتب هذا الإمام ورسائله وديوانه أنه رضي الله عنه وأرضاه، لم يدع شخصا من أهل الفضل أو الإبداع أو النبوغ والتفوق أو العمل للصالح العام في أي صورة من الصور ولم يترك طاقة من الطاقات الإنسانية القادرة على العطاء الإيجابي في أي مجال من المجالات ممن عرفهم أو التقى بهم في عصره ومصره ، من كافة الشرائح الاجتماعية، دون أن يشير إليه ويسجل بإطناب وإعجاب شيئا من مناقبه وخصائصه وتاريخ حياته بصدق وأمانة منقطعة النظير.
لقائته بالحبيب أحمـد بن زين الحبشـي
--------------------------------------------------------------------
أن النشأة المباركة على مخالطة العلماء الأعلام، ومجالسة الصالحين الأبرار الكرام وعلى المثول بين يديهم بصدق المحبة وعظيم التواضع وحسن الظن وصادق الرغبة في الاستفادة من علومهم وبركاتهم الحسية والمعنوية، وعلى سماع أخبارهم وسيرهم العطرة، تنبت في قلب الناشئ المبارك ورود الأشواق وأنوار الأذواق وموجات التطلع إلى زيارة كل علم صالح وكل عالم عامل، ابتغاء للخير والبركة واستجابة لقوله تعالى ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28 الكهف] صدق الله العظيم
ومن هذا المنطلقات كان الشوق المتجدد الذي امتلاء به قلب إمامنا العظيم الحبيب علي بن حسن لزيارة العلامة الكبير والقطب الشهير علم الشريعة والطريقة والحقيقة الحبيب أحمد بن زين الحبشي، رضي الله عنه وأرضاه المرة تلو المرة حيث لا تزيده كل زيارة لذلك الطود الشامخ والقدم الراسخ في التقوى والعلم والدعوة إلى الله على بصيرة إلا المزيد من الشوق والكثير من النفع والبركة وصالح الدعوات، ولندع ذلك البحر البياني العذب يصف تلك اللقاءات والزيارات:
{كان أول اجتماع لي بسيدي وحبيبي وشيخي، الحبيب السيد الشريف الإمام عالي المقام، علم العلماء الإعلام، الحيبب أحمد بن زين الحبشي باعلوي، إني جئت إلى بلد "شبام" حضرموت، وأنا في سن نحو الرابعة عشر من السنين، وقصدت عند الخال بكار بن محمد بن أحمد عقبه، ثم أني جئت أنا وهو إلى مسجد أبن أحمد، وفيه سيدي العلامة جمال الدين محمد بن زين بن سميط باعلوي، قرره فيه مولانا الحبيب أحمد بن زين المذكور، وذلك صلاة العصر، فقلت للحبيب محمد: إني مشتاق إلى رؤية الحبيب أحمد بن زين، فقال: أخرج إلى عنده في "خلع راشد"، فقلت: لكني مشتاق إليه كثير، وجعلت أكرر ذلك عليه مرارا، كالمصطلم والمتغانم جدا، وبي من الشوق والانجذاب إليه -أي إلى الحبيب أحمد بن زين- ما لا مزيد عليه، فقال -أي الحبيب محمد بن زين بن سميط- ما يمكن إلا ما قلته. فجلست عنده، وعنده جماعة منهم صنوه العلامة النجيب الولي/ علي بن زين بن سميط، وبكار بن محمد بن أحمد عقبه المذكور وغيرهم، فبينما نحن جلوس وهم يقرؤون في بعض الكتب، إذ دخل علينا المسجد بعينه الحبيب الشيخ أحمد بن زين المذكور، كأنه البدر في تمامه، إذا اشرف وجلا جنح ظلامه، فدخل من باب المسجد البحري الشرقي، فقمنا نتلقاه، فأما أنا فكدت أطير إليه، وحصل المقصود برؤية طلعة محياه المباركة، وعليه كساء فاخر أبيض، وجلس عندهم، وربما قرأ القاري، ثم ختموا المجلس، وقال لي -أي الحبيب أحمد بن زين- تخرج الليلة إلى "خلع راشد" أنت وبكار بن محمد عقبه، وكنت أنا تلك الليلة من ضيفان بكار بن محمد عقبه المذكور، فتعيشنا في بيته، وسرنا نحن وإياه إلى "خلع راشد"، وبتنا تلك الليلة في المسجد، وحصلت على تلك الليلة محنة قوية وشاغل في حالي لا يعلمه إلا الولي المتعالي، وفرج الله علي آخر الليل منه، وأما الحبيب أحمد فإنه تعشى فيما أظن عند أحد من أهل شبام، وبيت في "خلع راشد" لأنه صلى صلاة الفجر في المسجد، وأصبحنا عنده ووقع ذلك اليوم المدرس، وهو أول مدرس حضرناه عنده في البيت، وخرج لصلاة الظهر في المسجد، وقد كنت استعظمت كثرة نفقاته، مع قلة سببه وحركاته، فقال إنه ينفق من خزانة الله التي لا تفنى، وحضرنا المدرس أيضا عنده في المسجد، وحضر جمع كثير من جميع الصنوف، فجعل يذاكرهم في كل فن، ويدير عليهم المدد بكل دن، ومن جملة تلك المذاكرة، احفظ منها أنه قال: "إن جملة من الدعاوي وأظن عدها خمسا، لا يحتاج في قبولها إلى بينة، بل المدعي فيها مصدق بيمينه، والمجلس محفوظ بحمد الله تعالى عندي، كأنه أمس الماضي، مع أن له ثلاثين سنة منذ أن مضى. وانتهى المجلس المحفوظ الملحوظ، الذي جالسه بكل خير محظوظ، وعن كل ضير ملفوظ، وسرنا من عند فرحين بعزه ورفده، منشرحين بعرف رنده، ثم سار بكار، ثم أني بقيت أتردد عليه، لأنه باب الله في زمانه الذي يؤتى إليه، وأتوا البيوت من أبوابها، والفتاح صاحب الباب وهو الكريم الوهاب، الذي كل شي عنده بمقدار، ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39 الرعد] ( يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )[النور: 38]} ص 249 - 251 السفينة ج1.
واستطرد صاحب الترجمة رضي الله عنه عن لقاءاته بالحبيب أحمد بن زين وإمداده وبركاته {وجئت مرة أخرى وهو في منزل خالي -أي جالس فيه بمفرده وليس معه أحد غير الله عز وجل- وسألني عن جميع أحوالي، فقلت له في شي من المخاطبات "على الله" فأعجبته مني، وعرفت أنه قد استحلاها وعرف محلها، فقال "ما يطرح يا ولدي" فوقعت مني الموقع العظيم، ورفعت الخصيم وشفت السقيم، ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) )[الجمعة]} ص 252 السفينة ج1.
وقال صاحب الترجمة رضي الله عنه، عن أخذه وإلباسه وتلقينه من شيخه الحبيب أحمد بن زين، رضي الله عنه: {ثم أنه لما كان في بعض الأيام ونحن نقرأ عند الوالد أحمد بن حسين -بن عمر العطاس- إذ جاء إنسان يحفظ نشيدة الحبيب أحمد بن زين الحبشي نفع الله به التي مطلعها: لبست بحمد الله لبسا محققا***مع الأذن في الإلباس من قطب دورة. فلما أتم إنشادها حصل عندي الشوق لزيارة الحبيب أحمد بن زين المذكور فعزمت على ذلك بعد أن شاورت سيدي الوالد أحمد بن حسين، فأنعم لي بذلك، وذلك في حياته نفع الله به، فلما وصلت إلى حضرته الشريفة -أي الحبيب أحمد بن زين- حصل منه غاية الإكرام وقابلني بالبشر والترحاب، كما هي عادة أهل الله مع من يزورهم لله، وجعل يسألني عن جملة أحوالي الدينية والدنيوية، فلما سألني عن خاصة أمر المعيشة وغيرها من مهمات الوقت، قلت له في أثناء شي من ذلك: على الله ، ففرح بهذه الكلمة وظهر منه السرور بها، وقال: نعم على الله، ثم قال: ما يطرح يا ولدي، "وهي عبارة غزيرة المعاني والدلالات الإيمانية يرددها الحضارمة وتعني أن الله جلت قدره ما ينسى عبده ولا يهمله" ثم قلت له: والله لو أن الوقت يساعدنا والأرض تحمل الرغبة فيها "كذا في الأصل ونعتقد أن العبارة، والأرض تحمل الرغبة عنها، أي لو أن أرض الحبيب علي والمقصود بها بلده يمكن أن تستغني عن أقامته فيها" لا نفارقكم ساعة، ولما سبقنا هولاء الملازمون لكم إليكم، وكان ذلك بعد أن صلى بنا صلاة الظهر، ثم أني طلبت منه أيضا الاتصال به، والأخذ عنه بقراءة شي من الكتب عليه، وقلت له: عين من ذلك ما شئت أن أقرأ عليك، فقال: أقرأ علينا الذي تريده أنت، فقلت له: ما تقولون في سورة الفاتحة لو قرأتها عليكم؟ فقال: هي الجامعة لجميع المطالب. فحينئذ تربع جالسا في قبلة مسجده، ووجهه إلي، فقرأتها عليه، ثم قال لي بعد تمامها: ونحن نريد أن نقرأها عليك، فإن جدك عمر " أي الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس" لما البس الحبيب عبد الله الحداد طلب منه أن يلبسه. وقال له: نلبسك يا عبد الله بشرط أن نلبس منك. ثم قرأ الحبيب أحمد الفاتحة حتى أكملها. وإلى ذلك أشرت بقولي في نظم السلسلة:
وعن أحمد أبن الزين قد كان أخذنا لأم كتاب الله عين العناية
قرأها لنا من بعد ما قد قرأتها عليه ببيت الله في خير ساعة
ثم ابتدأ يذاكر في سيدي الوالد عمر وكان لذيذ المذاكرة فيه، ومن جملة ما قاله: إنه ترابي الأخلاق، لا يمكن لأحد المشي على قدمه، خصوصا في التواضع وهضم النفس ولين الجانب وعدم الدعوى بالكلية، نفع الله بالجميع} ص 62 و 63 السفينة ج1.
وفي موضع آخر من كتابه سفينة البضائع أورد صاحب الترجمة تفاصيل الإجازة والإلباس التي نالها بفضل من الله من الحبيب أحمد بن زين، بإسهاب أكثر وشرح أوفى فقال رضي الله عنه وأرضاه: {وبينما أنا في بعض الأيام أقرأ في كتاب "أحياء علوم الدين" عند الوالد أحمد بن حسين بن عمر العطاس، في داره بحريضة، وقد كنت لازمته بعد انتقال والده الوالد حسين -بن عمر العطاس- نحو ثلاثة عشر سنة، وقرأت عليه الكثير، إذ دخل علينا إنسان من المنسوبين إلى مولانا الحبيب الشيخ أحمد بن زين المذكور، فأنشدنا قصيدته التي مطلعها:
لبسـت بحمــــد الله لبـــســـا محقــقـــا
مع الأذن في الإلباس عن قطب دورة
لبـــست لـــبـاس القوم صوفية الورى
عـــن الـعــارف الـداعي بنجد وغورة
أبو الـــحــســن البحر المحيط بعلمهـم
عـنـيت بـــه الــــحــداد شـيخ عصوره
لـــه فـــي طــريق القوم طرقا عـديـدة
يـــعـــز عــلى المحصي كتاب سطوره
ولكنــنـي أذكـــر نهــــجـــا مــــحـــررا
بـــه يـــنتـــهج مــن مال جانب طوره
فعن عمر العــطـاس مــــوصــــل يــده
بـــلبـــس وتـــلقــين ومبـــسوط نوره
وتـــشــبــيـك أيــد مـع صــفاء تـــذكـر
وخـــلـــوة ســــر واجـــتـــماع حبوره
كـــذاك عــــن الـشـيخ الإمـــام مــحمد
نـــزيــل الـحـرم من قد حظي بطهوره
وأخــذهـــمــا عــن شيخ عصر بقطره
حــســـيــن أبن أبي بكر المغيث لفوره
إلى آخر القصيدة. وقد كنت سمعتها مرة أخرى تقرأ على ناظمها الحبيب أحمد بن زين المذكور قبل ذلك، وهو يشرحها للقاري ويفصل مناظمها، فلما أتمها النشاد، حصل لي جاذب للزيارة إلى الحبيب أحمد بن زين المذكور، واشتقت إليه كما يشتاق المحب المهجور، إلى الحبيب المنظور، وكما يشتاق الظمآن إلى الماء في الهجور، فحينئذ قلت للوالد أحمد بن حسين: أما تسمع ما يتبجح به مولانا الحبيب أحمد بن زين، وهو والحمد الله في الوجود؟ إذن لي في الزيارة فإني اشتقت إليه، فقال: أحسنت يا علي، زره وأنا والله لو كنت أستطيع لزرته معك. فقمت من فوري وذلك ضحوة النهار، فخرجت من حريضة، وما أمسيت إلا ببلد "هينن" ثم سرت منها إلى "خلع راشد" وطلع المراشد، ومحل المرشد الراشد، فلما وصلت إليه، ومثلت بين يديه، قلت له: يا سيدي والله لولا أن هذه العرصة التي أنت فيها لا يمكن لنا الإقامة بها، لا نفارقك ساعة، ولا يسبقنا إليك سابق من هولاء الجماعة، ونحن الآن نطلب من الله ثم منك شيئا من الصلة والنظر، ينوب عن طول الإقامة وكثرة القراءة والندامة، أريد أن أقرأ عليك شيئا من مصنفاتكم، فقال: صواب ذلك، وقد جعلنا لك فيما أردت قراءته علينا، من محفوظاتك أو غيرها، فحينئذ فكرت في نفسي، فألهمني ذو اللطف القدسي أن قلت له: أريد أن أقرأ عليك سورة الفاتحة، فقال: أصبت، جمعت الفاتحة الشي أو قال الخير كله، أو كما قال، فحينئذ تربعت بين يديه، وهو في قبلة مسجده، وذلك بعد صلاة الظهر، وابتدأت في قراءة الفاتحة حتى أكملتها من غير تكلف ولا زيادة على قراءتي المعتادة، فلما أتممتها قال: يا علي إن حبيبك عمر بن عبد الرحمن ترابي الأخلاق، جمعها أنه لما زاره الحبيب عبد الله الحداد وطلب منه الإلباس قال له: نلبسك يا عبد الله بشرط أو قال على شرط أن نلبس منك. ثم قال لي: -أي الحبيب أحمد بن زين- ونحن نريد أيضا أن نقرأ الفاتحة عندك كما قرأتها عندنا. ثم تربع وقرأها إدراجا من غير تكلف. وقد أشرت إلى ذلك بقولي في سلسلة إسناد مشائخي حيث أقول :
وعن أحمد أبن الزين قد كان أخذنا
لأم كـــتــاب الله عــيــن الـعـــنايــة
قـــرأها لـــنا مـن بعد أن قد قرأتها
عـــليـه بــبيـــت الله في خير ساعة
ص 252 - 254 السفينة ج1.
واستطرد صاحب الترجمة رضي الله في حديثه عن شيخه الحبيب أحمد بن زين الحبشي في موضع آخر من سفينة البضائع فقال: {وكم قد سمعنا منه مذاكرات، وحضرنا عنده محاضرات، ونظرنا عنده مناظرات، لأنه الأب الشفيق الصديق، وحادي مهيع الطريق، إلى حضرة الحق الحقيق:
وكم لامني لائم على فرط حبه ***فلم يزوني عذلا ولم ارض ما قاله
ولقد سمعت، عنه ومنه يذاكر مفتخرا بأن الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس، كان يمر في أول الزمان بالمكان الذي يسمى "قاع الرخم" وهو المكان الذي سكنه الحبيب أحمد بن زين الحبشي الآن، فيلتفت الحبيب عمر إليه إذا مر فيه، ويقول: "ياليت لنا خلع -نخل صغير يتم زرعه في المكان الصالح فينبت على خير وجه- في هذا المكان".ثم يقول الحبيب أحمد بن زين: ما مراد الحبيب عمر بالخلع النخل، إنما مراده نحن من خلع الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس. وقد لزم الصنو العلامة أبوبكر بن الوالد حسن الملازمة لسيدي الوالد الشيخ الحبيب أحمد بن زين المذكور، والقراءة عليه مدة من الزمان، وانتفع به نفعا مباركا وقال لي الصنو أبوبكر بن حسن المذكور بعد وفاة الحبيب أحمد بن زين: رأيت كأني عند سيدي الحبيب أحمد بن زين الحبشي، وكأني طلبت منه التلقين والإلباس، فقال لي: تلقن والبس من صنوك علي. ثم جاء الصنو أبوبكر وطلب مني التلقين بعد أن أعلمني بالرؤيا بالعلم اليقين، وكنت له على ذلك من الموافقين الموفقين. وكان الحبيب أحمد -بن زين الحبشي- كثيرا مايقول: "آل عطاس من الذين يحبون من هاجر إليهم" وهو كثير الثناء على غوثنا -الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس- وأبنه حسين -بن عمر العطاس- ويقول: "ما أحسن المذاكرة بالعلوم على لسان السيد حسين بن عمر"، ويقول والله "إن السيد حسين بن عمر من أولياء الله"} ص 254-257 السفينة ج1.
ثم ختم صاحب الترجمة رضي الله ما سطره قلمه الذي ينثر الدر عنه شيخه الحبيب أحمد بن زين رضي الله عنه فقال: {ولهذا الحبيب المذكور مع سلفنا ومعنا في هذا المعنى، الشي الكثير الذي ما كتبنا منه العشر ولا جمعنا منه يسير، ولا تكلمنا إلا ببعض ما سمعنا، كان الله معه. وجئته مرة وسألته أن يقرأ على عيني شيئا، وشكوت له ما بهما من الودع فطرح كفه الكريمة عليهما وقرأ ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) إلى قوله ( نُورٍ )[النور: 35-40] ثم نفث، فعلمت موافقته بما حصل من القراءة منه، لقول سيدي الوالد حسين -بن عمر العطاس- حين شكوت عليه ما بهما فقال: "ماهو -أي البصر- إلا نور من نور الله"،. وقال الحبيب أحمد بن زين الحبشي، لما زرت الحبيب عبد الله الحداد أول زيارة لي بعد وفاته رضي الله عنه، أول ما فتح الله علي به عند ضريحه، قوله سبحانه وتعالى ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم ِ(7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) )[غافر] ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )[الحشر: 10]
ثم أشار علي - أي الحبيب أحمد بن زين- بملازمة قراءة الآيات، لاسيما الدعاء عند الأمور المهمات، وبعد الصلوات في جميع الأوقات، فهي لي بحمد الله من الملزومات في الغدوات والروحات. فيا أيها الواقف على تلك الكلمات، خذها بقوة وثبات، فإنها من الهدايا الواصلات واجعلها وردك وأبشر بالخيرات، وجئت مرة زائرا لسيدي الحبيب أحمد بن زين المذكور، وحضرت عنده جمعا عظيما منهم السيد سالم بن عمر بن حسين بن أبي بكر -بن سالم- وغيره، وحصلت قراءة في المسجد وبعدها مذاكرة هو والسيد سالم المذكور، وربما انجر الكلام في آخر المجلس إلى المزح بشي من الكلام المنسوب إلى أهل بلد الغرفة، احفظه، فلما كان بعد صلاة المغرب طلبوهم للضيافة -لعله بعض أهل البلد- وتعشى معهم ولده سيدي الحبيب جعفر، وبقي الحبيب أحمد بعد صلاة المغرب في المسجد، وشرع في راتب القرآن ليلة الجمعة من الفاتحة وسورة البقرة، وبقيت عنده، قرأت معه الراتب، فلما بلغت في القراءة إلى قوله تعالي ( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ )[البقرة: 283] وكان المقرأ عندي، كررها (الحبيب أحمد بن زين) -أي تلك الكلمات القرآنية العظيمة- حتى قررها علي، والحمد لله على أما أسدى به إلى، فمن أراد تلقينها مني فليسمعها علي، ثم أنه صلى بنا العشاء، قرأ تلك الليلة فيما أحسب، الجمعة والمنافقون، وبتنا تلك الليلة عنده، وهي الجمعة التي جمع الله فيها الشمل، ووسع الفضل، ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ )[الجمعة: 4]} ص 257 - 261 السفينة ج1.
توفي الحبيب العلامة أحمد بن زين الحبشي رضي الله عنه وأرضاه ليلة الجمعة السادس عشر من شهر شعبان عام 1144 هجرية.
قال صاحب الترجمة رضي الله عنه: { ولما كان الليلة التي توفي بها سيدي الإمام غلام الساعتين الحبيب أحمد بن زين الحبشي، في يومها وهي ليلة الجمعة سادس عشر شعبان عام 1144 هجرية، وذلك فجأة بعد صلاة الجمعة، رأيت في النوم وأنا ببلد "هينن" كأني أنظر إلى القمر في وسط السماء وهو في غاية التمام، وكأنه خر إلى مثناة -وسط- حضرموت حتى توارى في الأرض، فلما أصبحت كنت كالمستشعر بخبر يأتي بوفاة حبر مشهور، فإني جربت هذه الرؤيا وهي رؤيا سقوط القمر إلى الأرض وانكسافه في العرض، بموت عالم شريف جامع بين العلم والولاية، وإذا رأيت في النوم سقوط بعض النجوم، مات من هود دون ذلك العالم الولي في المقام. جربت ذلك تجريبا محققا، ونفذت من "هينن" صبح ذلك إلى حريضة، فلم يرعني إلا خبر انتقاله، ونزله حيث نواله وإنزاله، مع محمد وآله، في حضرة القدس، ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55) )[القمر] بجلاله} ص 258 و 259 السفينة ج1.
وفي وصف شيخه الحبيب أحمد بن زين الحبشي رحمه الله قال رضي الله عنه وأرضاه:{وكان السيد أحمد المذكور من كبار العلماء العاملين، ومن الأئمة المجتهدين، ومن المشائخ المشهورين المربين الداعين إلى سبيل رب العالمين} سفينة ص65/1.
ارتباطة بالشيخ عبدالله بن عثمان العمودي
--------------------------------------------------------------------
يقول رضي الله عنه وأرضاه {ثم أني قصدت الشيخ الكبير عبد الله بن عثمان، صاحب الدوفة بوادي الأيسر " دوعن" وأقمت عنده مدة وقرأت عليه كتاب أسرار الطهارة من جملة كتاب إحياء علوم الدين مع حضوري المدارس عنده الكثرة، وسماع المجالس المنيرة، وأقمت عنده أياما كثيرة، ثم رجعت بإشارته إلى حريضة من طريق قيدون والوادي، ثم عدت إليه مرة ثانية لقصد حاجة واحدة لا أطلب سواها ولا أتمنى إلا هي، وهي أني لما وصلت إليه وتمثلت بين يديه قلت له: إنني أطلب منك أن تطلب الله لي أن ينزع من قلبي الغش والحقد والعداوة لأي أحد من المسلمين كائنا من كان، فلما قلت له ذلك تعجب من مقالتي وفرح بذلك مني وحصل لي منه غاية الإقبال والفرح والأنس بقولي هذا، وبقيت عنده أياما كل يوم أقول له: الله الله اجتهد في الدعاء بقضاء الحاجة المطلوبة. وأردت أن أسأله تلقين الذكر واللباس ولكنني تأدبت معه ومع شيخي الوالد الحسين بن عمر " بن عبد الرحمن العطاس" وربما قلت في نفسي عسى الله أن يأتي بذلك من قبل الشيخ عبد الله بن عثمان المذكور، فبينما أنا عنده في بعض الليالي أو الأيام، إذا جاءه إنسان يطلب منه تلقين الذكر، فقال: كلكم يا هولاء الجماعة تلقنوا، فحصل المطلوب بحمد الله تعال، وهو وشيخي الوالد الحسين بن عمر العطاس هما اللذان أشار إليهما الوالد الشيخ عبد الله بن علوي الحداد بقوله في حياته وحياتهما:" ما نحن مستأمنون في جهات الوديان والكسور ووادي عمد ودوعن إلا على حسين بن عمر العطاس وعبد الله بن عثمان( أي في نشر العلم والدعوة إلى الله وإصلاح ذات البين وإخماد نيران الفتن) والحمد لله الذي جعل هذين الشيخين مشائخي على التحقيق، بالقراءة والمجالسة والمذاكرة والتلقين والمصافحة واللباس والزيارة والعنوة "القصد والعناية" من بعيد، مع قوة الطلب وحسن الظن الذي هو باب جميع الخيرات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} السفينة ص71-73/1.
واستطرد الحبيب علي في موضع آخر قائلا عن شيخه العلامة الجليل عبد الله بن عثمان رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: { ثم أني زرته مرة ثالثة، وخلوت معه وهو مريض تعيب في مرضه الذي توفي فيه، بحيث أنه كان مستلقي على ظهره لا يقدر على الانحراف ولا القيام، فأشرفت في وجهه وقلت: يا شيخ عبد الله كن معنا فإنا مستمدون منك، وقد أكثرنا التردد عليك رغبة فيك، وتكلفنا المسير والمجي والمراح في هذا الجبال والرحاب، وما ذلك إلا لأجل استمداد الدعاء والتماس البركة منك، فعند ذلك أجهش بالبكاء ومد يده حتى لواها على عنقي ووطأ رأسي إلى وجهه حتى فغر الدمع من عينيه، ولمس وجهي بسبب الملاصقة وقال: إنما المستمدون نحن من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، فقلت له لا تردونا بهذا، فإنا مستمدون منك وأنت مستمد من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أني توجهت من عنده فبلغني خبر وفاته إلى حريضة رحمة الله عليه، وكانت وفاته ليلة السبت السابع عشر من شهر ربيع الأول عام 1143هـ.} السفينة ص73و74/1. ثم قال الحبيب علي في وصف شيخه العلامة الصالح عبد الله بن عثمان العمودي {وكان الشيخ عبد الله بن عثمان من أهل الولاية والنور، عالما عاملا ورعا زاهدا نقيا تقيا، طُلب أن يتولى القضاء فامتنع، فألح عليه صاحب الأمر بأن يتولى القضاء، فقال له "أي الشيخ عبد الله بن عثمان": وتنفذ ما أحكم به من الحق؟ قال: نعم، فقال "الشيخ عبد الله بن عثمان" أول ما أحكم به عليك أن تقتل أخاك فلانا فإنه قتل فلانا ظلما، وقد قال تعالى ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ )[المائدة: 45] ثم تركه عند ذلك. وله مناقب كثيرة وآيات شهيرة، وعليه آثار النور لائحة وأسرار البركة بائحة، ودواعي الحق صائحة "أي تهتف بمن يلقاه أنه أمام علم من أعلام الحق والحقيقة" نفع الله به وبسائر عباده الصالحين، آمين اللهم آمين} سفينة ص74و75/1.
لقد رثى الحبيب علي بن حسن العطاس شيخه العلامة الشيخ عبد الله بن عثمان العمودي بقصيدة عصماء قال من ضمنها: وكان قد أرسل القصيدة المرثاة مع تلميذه "أحمد عوض بن سلمه" إلى الشيخ العلامة الكبير عمر بن عبد القادر العمودي القائم في مقام القطب الشهير الشيخ سعيد بن عيسى العمودي بمدينة قيدون بحضرموت، وقد فرح الشيخ عمر بتلك القصيدة ونالت منه غاية الإعجاب، وعرضها على الشيخ العلامة الفاضل عبدالله باعمر العمودي وطلب منه قراءتها على الحاضرين في مسجد الشيخ سعيد بن عيسى رضي الله عنه وأرضاها، وبعد القراءة طلب الشيخ عمر من الشيخ عبد الله جوابا مناسبا عليها، إلا أن الشيخ عبد الله باعمر اعتذر عن ذلك بعدم الأهلية والمقدرة كعادة أهل العلم والتقوى في التواضع وهضم النفس وإلا فقد كان رحمه الله فارسا في ميادين العلوم والمعارف لا يشق له غبار.
ارتباطة بالشيخ ياسين بن أحمد العلوي الموصلي
--------------------------------------------------------------------
وقد حضر ذلك المجلس المبارك في مسجد الشيخ سعيد بن عيسى العمودي، رجل من أولاد السيد فتح الموصلي من الأشراف العلويين، يدعى "ياسين بن أحمد" وهو من أهل العلم والولاية والتقوى جاء إلى حضرموت سائحا على قدم التجريد بعد ما حج وزار مدينة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، يلتمس المزيد من العلم والتبرك والإجازة من أعلامها وجهابذتها الذين وصفهم الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن أسعد اليافعي عند ما زار حضرموت قادما من مكة المكرمة بأمر من والده علامة الحجاز في عصره، بقوله:
مررت بوادي حضرموت مسلما فألفيته بالبشر مبتسما رحبا
وألفيت فيه من جهابذة العلا أكابر لا يلقون شرقا ولا غـرب
وقد طلب السيد ياسين من الشيخ عمر بن عبد القادر الأذن في مرافقة "أحمد عوض بن سلمه" لزيارة الهجرين وحريضة ثم بقية مدن حضرموت المنيرة بأهل العلم والتقوى، أحياءً وأموات، فأذن له الشيخ عمر بذلك وتوجه مع أحمد بن سلمه إلى الهجرين أولا حيث التقي فيها بمحب الحبيب علي بن حسن وصديقه العلامة الزاهد الشيخ فخر الدين أبي بكر بن وجيه بن عبد الله بن عفيف الهجراني الكندي، الذي أخبره السيد ياسين بن أحمد بأنه سوف يلتقي قبل التوجه إلى اسفل حضرموت بإنسان "ذكر صفاته الخلقية والخلقية بتحديد وتفصيل" ففهم الشيخ أبو بكر أنه يقصد، الحبيب علي بن حسن العطاس، وبعد إن قام بمعية الشيخ أبي بكر بزيارة زاوية العلامة الصالح الشيخ أحمد بالوعار بالهجرين، أتجه بصحبة أحمد بن سلمه إلى حريضة وكان طوال الرحلة في الطريق، يتحدث إلى أحمد بن سلمة عن مقامات رجال من أعلام حضرموت مثل الحبيب علي بن حسن العطاس والحبيب أحمد بن زين الحبشي وغيرهما بحب وإعجاب وإكبار منقطع النظير، حتى بلغا إلى مكان يقال له الغيوار"قبل تأسيس المشهد فيه" وكان ملتقى للعديد من الطرق الرئيسة في أدوية حضرموت العليا ومدنها وقراها، مما جعله مكمنا للصوص وقطاع الطرق الذين ينهبون المارة ويروعونهم وربما قام بعض أولئك اللصوص بالقتل وسفك الدماء البريئة، فسأل السيد ياسين رفيقه بن سلمه بقوله "هل أنت خائف بهذا المكان" فأنكر أولا حتى لا يثير الخوف لدى رفيقه وضيف بلاده، لكن السيد ياسين أردف قائلا "بلى أنت خائف هنا" فلم يجد أحمد بن سلمة مناصا من الاعتراف بخوفه قائلا "نعم لأن هذا المكان ملتقى اللصوص والحرامية وقطاع الطرق لا يمر أحد به في العادة إلا ويأخذون ما معه" فقال له السيد ياسين "لا تخف" وكأنه يشير بشفافية النفس المطمئنة، الراضية المرضية وبنور البصيرة المتعرضة أبدا لنفحات الباري جل شأنه وفيض عطائه، إلى ما سيؤول إليه أمر هذا المكان عند تأسيس المشهد فيه حيث أصبح بعد الخوف والعطش والوحشة والنهب والسلب، ملتقى أهل العلم والفضل ترتفع في أرجائه منائر الذكر والتذكير والتكبير، وتنعقد في ربوعه مجالس العلم والتعليم وإصلاح ذات البين، يطعمون أهله فيه الطعام على حب موالهم المسكين واليتيم وعابر السبيل ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9) )[الإنسان: 9] قال أحمد بن سلمة فزال عني الخوف من تلك الساعة. ثم وصل السيد ياسين بن أحمد إلى حريضة وبمعيته أحمد بن سلمة، فالتقى الحبيب علي وزار مشاهد حريضة ومعالمها ومرقد كبيرها وأمامها الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس رضي الله عنه وأرضاه ومكث بحريضة أياما ثلاث، ثم سار إلى أسفل حضرموت، وقد حصلت بينه وبين الحبيب علي بن حسن ألفة ومحبة في الله جعلت من فراقه عند مغادرته حريضة أمر شديد الوطأة والحزن على الحبيب علي بن حسن كما أشار إلى ذلك بقوله: {وكان لما عزم من البلد لم يطلب رفيقا ولا دليلا، بل خرجت معه إلى طرف البلد أشيعه وودعته ورجعت وأنا مهموم لفراقه، كان الله معه ونفع به} السفينة ص 77/1.
ارتباطه بالشيخ عمر عبدالقادر العمودي، قيدون
--------------------------------------------------------------------
القائم في منصب الشيخ القطب الكبير سعيد بن عيسى العمودي في ذلك الوقت، علامة جليل وداعية مصلح وولي من أولياء الله الصالحين، زاره الحبيب علي بن حسن في منزله المبارك بقيدون وبمعيته الخطيب عمر بن علي باراسين والشيخ محمد بن علي باقدامه والسيدين حسين بن أبي بكر بن سالم بن عمر العطاس واحمد بن عبدالرحمن العطاس فتلقاه بغاية الأنس والترحيب والإقبال، وتذاكر معه في شتى العلوم والمعارف وطالت المذاكرة بينهما، ووقع في خاطر الحبيب علي بن حسن أثناء المذاكرة وهو بحضرة الشيخ عمر بن عبد القادر، ما سمع به قديما من بعض العوام: أن قطب الدعوة والإرشاد الحبيب عبد الله بن علوي الحداد رضي الله عنه وأرضاه، قال يوما وقد ذكر عنده الشيخ عمر بن عبد القادر المذكور، أنه يفعل مثل ما يفعله الشيخ الفقيه عمر بن عبد الله بامخرمة من تعاطي السماع، وأن الشيخ عمر بن عبد القادر مثل الشيخ عمر بامخرمة وأكثر "أي في الولاية وسعة الحال" قال الحبيب علي بن حسن وكان ذلك الخاطر يتكرر على ذهني مرارا عديدة ، ورجوت الله في نفسي أن يلهم الشيخ عمر بن عبد القادر بذكر حقيقة تلك الرواية ومدى صحتها ابتداء دون أن أتجرى بسؤاله، لأن الغالب على أهل الجهة -كما يقول الحبيب علي بن حسن - مثل هذا التساهل في تعاطي رواية ما ليس له أصل، وكان الحبيب علي يقول في نفسه: "إن كان حضوري هذا مع إنسان حاله كحال الشيخ عمر بامخرمه، فقد نلت خيرا كثيرا، أو ما هذا معناه" فما كان من الشيخ عمر بن عبد القادر، إلا أن أشار مؤكدا تلك الرواية دون سؤال قائلا: نعم إن فلانا، وسماه، من أهل دوعن وأظنه قال من أهل الخريبة وهو أحمد بن المعلم سعيد باسودان، جاء إلى عند الحبيب عبد الله الحداد، بعد أن صعدنا نزور دوعن في مظهر كبير، القصب والطيران، وذكر الشيخ عمر بن عبد القادر قول الحبيب عبد الله الحداد المشار إليه أعلاه بالنص، فحمد الله الحبيب علي بن حسن العطاس وأثنى على هذه المنة والسعادة التي من بها على عبده علي بن حسن بالجلوس بين يدي هذا الأمام الجليل الذي حاله مثل حال الشيخ عمر بن عبد الله بامخرمة وأكثر. ودعا الشيخ عمر للحبيب علي خاصة والحاضرين عامة بقضاء الحوائج جميعها بعد أن عاب على الزمان قل التعاون والتراحم والمساعدة مستدركا بقوله "ولكن لله باب ليس يقلد" وكأنه يشير إلى قول الفقيه عمر بامخرمه:
يالله إن خان راعي العهد واخلف من أوعد
وانقلد باب من يرجى مـن الخلـــق وارتــــد
فان لك باب يـا مـــولاي مــــا قــــط يــــقلد
ما هو الا لــــوفــــاد الــمــســـاكـيـن مقصد
يا الله إنا شردنا إليك يـــا خـــيــر مـــشــرد
وقد بات الحبيب علي بن حسن ومن بمعيته تلك الليلة في ضيافة الشيخ عمر بن عبد القادر وظلوا عنده مشمولين بكرمه الحاتمي المشهود والذي يعز نظيره في ذلك الزمان حتى طلبوا منه الأذن بالمسير بعد تناولهم طعام الغداء على مائدته فأذن لهم بذلك، وكانت ساعات صفاء نوارنية ولحظات بشائر وعلوم ونفحات تلك التي قضاها الحبيب علي في حضرة شيخه الشيخ عمر بن عبد القادر كما وصف ذلك رضي الله عنه بتوسع وإطناب. وقد لفتت نظري عبارته التي أوردها في كتابه سفينة بالبضائع حول التساهل في رواية ما ليس له أصل عن الصالحين والعلماء كما وردت بنصها أعلاه.
ولعل الحبيب علي بن حسن حينما أورد تلك العبارة ينظر وقتها بنور البصيرة النيرة وبفراسة المؤمن الصالح إلى ما سوف يتعرض هو له من قيام البعض بنسبة روايات وأقوال إليه تتناقلها العامة وليس لها أصل البتة، ومحاولة بعض الحاقدين على عباد الله الصالحين أن يجعلوا منها دليلا على عدم التزام ذلك النفر الصالح بالشريعة الغراء، مثل الأقوال المنسوبة زورا وبهتانا إلى الحبيب علي حول الزيارة التي يقوم بها بعض آل عطاس وأهل حريضة للمشهد في شهر ذي الحجة والتي تقررت بين أهل حريضة والمشهد، كعواد لأهل المشهد، بعد وفاة الحبيب علي بأكثر من أربعين عاما، وحكاية العبور مرتين أو ثلاث على بئر عطية بالمشهد لمن تأخر حملها أو لادتها ، وهو ما لم يرد في أي كتاب من كتبه أو يروى عن ثقة عنه على الإطلاق، فنسأل الله حسن الظن بأهل العلم والتقوى والصلاح والأدب معهم، والتريث في ترديد الروايات الموضوعة أو المشكوك في نسبتها إلى من نسبت إليه، والحماية من إصدار الأحكام الجائرة المغرضة والمفتقرة إلى الدلائل القاطعة على عباد الله أحياء وأموات.
وقد انتقل الشيخ العلامة عمر بن عبد القادر العمودي إلى جوار ربه، ليلة الأحد، العاشر من شهر رجب عام 1147هـ ، وكان صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن في ذلك الوقت في بلد هينن، في زيارة لوالدته، يقول عفى الله عنه ونفعنا به عن في وصف الإرهاصات التي ظهرت له بوفاة الشيخ عمر بن عبد القادر، وما يعتاده من هذه الإرهاصات قبيل وعند وفاة الأولياء والصالحين والتي تدل على شفافية روحية وصفاء وجداني أنعم الله بهما على هذا الإمام الكبير صاحب الترجمة :
{فلما كان في بعض الليالي رأيت -أي في المنام- يغفّلون أي يقولون "لا إله إلا الله يا غافلين" على عادتهم إذا خسف القمر أو كسفت الشمس، وكان القمر مضيئا، فكأني أقول الناس يغفّلون والقمر سالم ما فيه خسوف، ثم نظرت فإذا القمر مقارب الجبال البحرية التي إلى جهة دوعن وإذا هو ينزل إلى الأرض فقلت صدق الناس ما أرى القمر إلا يريد أن يقع على الأرض، فلما انتبهت علمت إنما هذا الشيخ عمر سيموت، وكنت إذا رأيت القمر انخسف علمت أنه سيموت كبير من الأولياء أو قريبة وفاته، وإن كان دون ذلك المقام رأيت كأن كوكب سقط على الأرض} ص 89 و90 سفينة ج1.
وفي تفسير هذه الظواهر والإرهاصات التي تعتاد صاحب الترجمة عند موت الأولياء والصالحين نلحظ بجلاء تمسك هذا الإمام الكبير بالشريعة الغراء في كل ترقياته وفيوضات العطاء الإلهي التي تنثال عليه من خلال ربط كل ذلك بدليل من القرآن أو السنة المطهرة حيث يستطرد قائلا: {وذلك معنى قوله تعالى ( يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )[المجادلة: 11] فحينئذ عزمت إلى حريضة -أي من هينن- ومنها إلى دوعن فتوفي الشيخ قبل أن اصل قيدون -بلد الشيخ عمر- ولقيت خبره في الطريق} وقد جرى ختم القرآن، الذي اعتاد أهل حضرموت على فعله بعد القراءة التي يهدون ثوابها لمن شاءوا من الأهل والأقارب أو أهل العلم والصلاح والمسلمين عامة بعد سيد الأولين الآخرين وآله وصحبه، على الشيخ عمر بن عبد القادر عشية الخميس مقدم ليلة الجمعة ثالث جمعه في شهر رجب من عام 1147هـ، وقد اعتاد الشيخ عمر بن عبد القادر أن يفعل ضيافة لزوار مقام الشيخ سعيد بن عيسى، فكان ذلك من عجائب الاتفاق كما ذكر صاحب الترجمة في كتابه سفينة البضائع.
نموذج من فضيلة الإنصاف ومعرفة الفضل لأهله (1):
قلنا أن صاحب الترجمة رحمه الله كان ممن اشتهر بمعرفة الفضل لأهله وبإنصاف معاصريه وأقرانه وبتقدير الرجال من أهل وطنه وغيرهم ومن كافة الشرائح الاجتماعية دون تفرقة أو تمييز، وهي صفة من الصفات النادرة قلما يجود بمثلها الزمان بين أصحاب العصر الواحد، حتى ذهب بعض علماء الجرح والتعديل إلى عدم قبول تجريح المعاصر في معاصره من الأنداد والأقران، خشية الشطط في التجريح وتعقب الصغير من الأخطاء والسلبيات بالتضخيم والتشهير بسبب من داء المعاصرة المتمثل في الحسد والتنافس والتسابق على الوظائف أو الجاه أو الحطام.
وهانحن هنا أمام نموذج رائع ودليل واضح على هذه النعمة التي من الله بها على صاحب الترجمة رضي الله عنه وأرضاه من ضمن نعم كثيرة لا تعد ولا تحصى ولا تنحصر ولا تستقصى
يقول في وصف معاصره العلامة الشيخ عمر بن عبد القادر العمودي ما نصه:
{وكان الشيخ عمر المذكور من العلماء بالله ومن المجتهدين الدائبين في عبادة الله، ومن الناصحين لعباد الله، جد واجتهد في العبادة، وله اليد الطولى في السخاء والكرم بحيث لم يبلغنا عن أحد من السلف أنه بلغ مقامه في الكرم، حتى حاتم طي، لأن هذا على طريق الصوفية، التي هي روح جسم السيرة النبوية، وتمثال خيال الأخلاق الألهية، تخلقوا بأخلاق الله، السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، وما ذاك إلا من قبل التصريف الذي يختص به من يشاء من أوليائه الذين بلغوا ذلك المقام، حتى كان يقول -أي الشيخ عمر- من أراد البركة الجم يأكل الأكل الجم، ويقول الذي يكفي جماعه أقدمه للواحد، وذلك بضد ما يقوله الناس ما سد واحد سد جماعه، وهذا لما كان أمره مبني على ما ذكرنا قال بضد ما يقوله الكرماء، والله ثم والله إن الذي رأيناه من كرم هذا الشيخ المكرم لا يقدر يطيقه البشر -أي إلا من اختصه الله بذلك-، وحكى لي بعضهم قال جاء الشيخ عمر إلى بلدنا فطلبنا منه أن يخرج يستسقي بنا، فقال أفعل إن شاء الله وليس معي إلا ثلاث: حسن الظن بالله، وحسن الظن في خلق الله، وطرح مسكنتي فوق مسكنتكم، يعني بين يدي الله، قال فخرجنا فكان السيل تلك الليلة من فضل الله. ومن المشهور المستفيض له مع جلسائه أنه كان يتكلم بكل ما كان يخطر في ضمائرهم، وقد اتفق لنا معه مثل ذلك كما قدمناه -أقول أنا العبد الفقير إلى الله مصطفى بن عبد الرحمن بن عبد الله العطاس، خادم هولاء القوم ومملوكهم إن شاء الله، إن هذه الصفة الجليلة التي اشتهر بها سيدي الشيخ عمر بن عبد القادر العمودي، والتي أشار إليها صاحب الترجمة سيدي الحبيب علي بن حسن العطاس، هي مصداقا لحديث سيد الأولين والآخرين عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ومن ينظر بنور الله أي حجاب سيقف دونه ومعرفة ما يخطر في ضمائر جلسائه، رزقنا لله حسن الأدب معهم وحسن الظن بهم وفيهم ومنهم-} ص 90،91، سفينة ج1.
ثم استطرد صاحب الترجمة رضي الله عنه في وصف الشيخ عمر قائلا: {وكذلك ما رأيناه من شدة مجاهدته في العبادة لا يطيقه بشر -أي إلا من اختصه الله ووفقه- وما هو إلا آية من آيات الله وبالجملة فقد عرفت أنا في هذا الشيخ المذكور ثلاث خصال كل واحدة منها عبادة مستقلة بنفسها يمكن أن يصل العبد بها إلى رضوان الله وقبوله تعالى وحدها، الأولى: كثرت جده و اجتهاده في أنواع العبادة و الصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و الذكر والتذكير وقيام الليل وتلاوة كتاب الله العزيز بحيث أن الختمة (المصحف) للتلاوة لا تزال دائمة بين يديه وكل نوع من أنواع العبادة فله فيه اليد الطولى بحيث لا يساويه غيره فيها. الثانية: كرمه وسخاؤه وجودة و افضاله ودهباله (سخاؤه وإنفاقه) على الواردين من زوار الشيخ سعيد (بن عيسى العمودي) وغيرهم من أهل البلد وصلة أقاربه بحيث لا يخلوا له وقت من إكرام الضيفان من الدول و الأكابر و الأمراء و القوي والضعيف و الفقير والبدوي حتى صار كرمه كالمطر يصيب الشجر ذات الثمر و الحجر مع المبالغة في ذلك. الثالثة: خلقه العظيم الوسيم الذي هو ارق من النسيم و أصفى من التسنيم بحيث صار الناس عنده سوى في كونهم مقبولين محمولين مشمولين كأنه الأب الرحيم للجميع البدوي والحضري والعالم والجاهل والعاقل والغشيم فتراه يكلم كل واحد منهم بما يفهم فيحسب انه لا يعامل إلا هو، بل قد سمعته أنا يتكلم لبعض لبادية بلغتهم -أي لهجهتم- تنزلا منه لهم و إذا جلس في مجلس تكلم بما يليق ذلك المجلس، حتى إني لما زرت الشيخ سعيد أول زيارة لي واتفقت بالشيخ عمر اتفاق معه في سمر عام عند بعض أهل البلد وسمعته يمزح معهم، ظننت أنه خادم البلاد الذي يقال له الصبي و الدلال فرضي الله عنه و تقبل منه، فهو بحمد الله مظهر من مظاهر الجمال و الكمال، ومفخر إذا تفاخرت الرجال بصالح الأعمال و مناقبه كثير تقتضي تصنيفه مستقلة بها ضخمة المجلدات نفع الله به وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته آمين} ص 91و92و93 السفينة ج1.
ارتباطة بشهاب الدين أحمد بن عبدالرحمن بن محمد العيدروس
--------------------------------------------------------------------
صاحب ومنصب بلدة "الحزم" بحضرموت زاره صاحب الترجمة وهو في طريقة إلى سيئون وتريم وعينات، وصلى خلفه الظهر ولم يسمعه يقنت لنازلة القحط بالاستسقاء بالدعاء الذي أوله: (اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا). فلفت انتباهه لذلك فقال الحبيب احمد بن عبد الرحمن، "نبهتنا إلى شي كنا عنه غافلين"، واستطرد الحبيب أحمد بن عبد الرحمن قائلا: "أما أهل تريم فإنهم ملازمين السناوه وقائلين إن أمطرت أو ما أمطرت سنينا، وأما نحن وأهل شبام ونواحيها فإن أمطرت وإلا سنينا، وأما أنتم أهل العلو فإن أمطرت وإلا كيف تصنعون؟" فقال له صاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن: ونحن إن أمطرت وإلا بكينا. فقال له الحبيب أحمد بن عبد الرحمن "صدقت".
عــبــقــريــتــه ونــبــوغــه
--------------------------------------------------------------------
حبه للعلم وتحمل المشاق في طلبه وفي الحصول على مراجعه
كان من أبرز مظاهر عبقرية صاحب الترجمة سيدنا الحبيب علي بن حسن العطاس رضي الله عنه ونبوغه، حبه للعلم واحترامه للعلماء، وتعلقه المبكر بطلب العلم في بيئة تعاني من شظف العيش وتستغرق معظم اهتمامات أهلها هموم الكد والكدح في الزراعة والرعي لتوفير اللقمة الحلال. وصاحب الترجمة رضي الله عنه وإن شارك أهل بلده في مجال العمل والكد في الزراعة والحرث وجلب الماء من الطوي البعيدة، منذ الصغر، فقد تميز ضمن قلة من أمثاله، بنعمة الزهد والحرص على الكفاف والنهم الفريد للنهل من العلوم والمعارف في مختلف المجالات، وكان من القلائل بين أهل ذلك العصر في حضرموت، الذين بلغوا شأوا في العلم والمعرفة الموسوعية، تتقطع دون بلوغه الأنفاس، ولم يقف به الأمر عند التلقي والتحصيل بل سرعان ما برزت تلك الحصيلة العلمية الكبيرة -وهبا وكسبا- في النشر والتدريس والتأليف والتحليل ببصيرة علمية ناقدة مميزة امتد نفعها وتأثيرها في أهل عصره ومن جاء بعدهم حتى كان مضرب الأمثال وكعبة الآمال، ونسيج وحده بين عظماء الرجال، يقول رضي الله عنه:
{فلما حصل بحمد الله لي الفتح في الطلب واستقوى داعي الرغبة، كنت لا اشبع من مطالعة الكتب ولا من المذاكرة في العلم ولا من زيارة أهل الخير والتردد إليهم في أي مكان كانوا، وذلك مع شدة الاعتقاد وحسن الظن، حتى قال لي بعض الناس وكان لا يأتي إلا ويجدني في قراءة أو مطالعة أو مراجعة أو تأليف أو مقابلة: ما أصبرك على هذه الكتب، فقلت له: يا فلان ما هو صبر إنما عشقة وهوى ومحبة ونهم ومقة، ربما قلت وفي الحديث، منهومان لا يشبعان، طالب العلم، وطالب الدنيا، وكنت إذا سافرت إلى مكان -أي مكان-، استصحب معي منها أي الكتب التي لا بد لي منها، أما الحمل وأما الحملين، دون ما استغني عنه مما أتركه في البيت، حتى قالت لي الوالدة فاطمة بنت الشيخ أبي بكر بن شيبان رحمها الله تعالى: يا علي إذا جئت إلى عندنا إلى بلد "هينن"، ومعك هذه الحمولة من الكتب فأحسن أن تجعلها ظاهرة في أواعي رؤوسها مفتحة، لأن أهل البلد إذا شاهدوك وقد أقبلت بالحمول ربما ظنوا أنها من متاع الدنيا الذي لهم رغبة فيه. فنضحك من ذلك، فكانت الوالدة تقول ذلك على سبيل المزح والمباسطة. وكنت والحمد لله إذا عزمت -أي للرحلة- ومعي شي من الكتب في أيام الغيث -أي شدة الأمطار- أعتاد من ذي العوائد الجميلة بحرمة صاحب الوسيلة والفضيلة أن تلك المخيلة -أي الأمطار الشديدة- لا تصيب ما معي من تلك الحمولة، بحيث أني إذا خرجت وهي تمطر كفّت المطر، بحمد الله تعالى ولطفه الخفي الذي إذا لطف به أحد من عباده كفى وشفى جربنا ذلك مرارا عديدة} ص 211 - 213 السفينة ج1.
إننا ونحن نتابع هذا الوصف العذب البسيط المتدفق في روعة وصدق لمدى العناية بطلب العلم والشغف بالقراءة والمطالعة والبحث والدرس عند صاحب الترجمة رضي الله عنه الذي خطه قلمه قبل أكثر من قرنين ونصف من الزمان، وهو دون ريب أحد أئمة التصوف الإسلامي السني في ذلك الجزء الهام من العالم العربي المشار إليهم بالبنان، ننظر في الوقت نفسه بالكثير من الدهشة والتعجب لذلك السيل الجارف من المغالطات وسهام التشويه والتجريح التي تعرض لها أعلام التزكية والسلوك والتي كان الاتهام بعزوف أولئك النفر الصالح عن طلب العلم ورغبتهم عنه وعدم احتفالهم به وقلة تقديرهم لأهلة من أبرز مظاهرها وأقوى أسلحتها، ولا جدال أن التعجب يتحول إلى رثاء والدهشة تنقلب اشمئزازا من المغالطين والمرجفين بعد قراءة مثل هذا الوصف الصادق لعناية أئمة التصوف وأعلامه بالعلم وحرصهم على طلبه وتحملهم المشاق في تحصيله ودرسه.
وتدلنا هنا أيضا قصة صغيرة على معنى عميق وكبير في هذا المضمار
--------------------------------------------------------------------
بينما كان صاحب الترجمة رضي الله عنه يطالع في مكتبته الخاصة بداره في حريضة إذ دخلت عليه زوجته بوجبة العشاء الخاصة به ووضعتها بجانبه بعد أن نبهته إلى ذلك، فلم يلتفت إلى تلك الوجبة واستمر في قراءته ومطالعاته وتسجيل ملاحظاته وكتاباته حتى أذن المؤذن لصلاة الفجر، فقام لأداء الصلاة، وبعد أن أتم ورد أذكاره اليومية عاد إلى كتبه ومطالعاته، ناسيا تماما وجبة عشائه التي كانت بالقرب منه، وبينما هو على ذلك الحال، إذا ناداه أحد جيرانه الذي يشاركه في مزرعة صغيرة مما ورث حصته فيها عن أهله، قائلا له حين أطل عليه من شرفة مكتبته، أن اليوم يوم حصاد تلك المزرعة وأنه -أي ذلك الجار- يطلب من صاحب الترجمة، مرافقته إلى المزرعة لحضور قسمة المحصول ، فقال له صاحب الترجمة: إن الذي تريد مني أن أحضر حصاده وقسمته في الحقل، موجود عشائي منه بجانبي منذ البارحة ولم أجد الوقت لتناوله، فكيف بالذهاب لحضور الحصاد والقسمة، قم أنت بالحصاد وخذ ما تشاء من المحصول، وأحضر لي ما تطيب نفسك به منه.
ولا نشك أيضا في أن الكثير من أدعياء العلم، سوف يلوون رؤوسهم إعراضا وصدا واستنكارا واستكبارا من تحدث صاحب الترجمة رضي الله عنه بنعمة ربه، وقوله أن الله بعوائده الجميلة ببركة صاحب الوسيلة والفضيلة مدينة العلم ومصدره سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، عوده على حفظ كتبه التي يحملها معه في رحلاته المتصلة للدعوة إلى الله ونشر العلم وإصلاح ذات البين من أن تمسها مياه الأمطار والغيوث التي يتصادف هطولها في أماكن عبوره أو أن الله يأمر واكفها بأن يكف حتى يبلغ صاحب الترجمة مأمنه ومكان وجهته، ناسين قول أمام العلم والعلماء وخاتم الرسل والأنبياء سيد الأولين والآخرين حبيبنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه في الحديث الصحيح (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب) وإذا كانت الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم فما الذي يحول دون الغيوث أن تكف صيبها وهاطلها للعالم بقدرة خالق الملائكة وأجنحتها والغيوث وصيبها والعلماء وما يعلمون ويعملون. قال من عز من قائل كريم (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(1) وقال جل ذكره وتقدست أسماءه (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(2) حفظنا الله من عمى القلوب، ورزقنا حسن الظن وسلامة العقيدة في كل عالم عامل محب لله محبوب.
ولقد عانى صاحب الترجمة رضي الله عنه كثيرا من قلة الكتب والمراجع في بلده حريضة والبلدان المجاورة، ومن ضن مالكيها بها إن وجدت -حسدا حينا وبخلا أحيانا- لكنه استطاع بقوة شخصيته وعظيم همته ونشاطه في متابعة البحث عن ما يحتاج إليه من الكتب والمراجع، من سد تلك الثغرة التي امتزجت في عصره بآفات الحسد وغمط الفضل وسلبيات المعاصرة ومنافسات المعاصرين. والملفت للنظر والتأمل أننا نجد تفاصيل كل تلك السلبيات والآفات الاجتماعية تنعكس في قصص حقيقية، وروايات مفصلة ودقيقة في مؤلفاته وقصائده، بشكل ينم عن مقدرة فائقة وصبر عجيب على تسجيل كل شاردة وواردة بأسلوب من يعرف أهمية التاريخ وخطره وأثره في مستقبل الأيام ويدرك مضار التحريف والتشويه الذي تتعرض له صفحاته من عزوف القادرين على تسجيل حقائقه وتوثيقها سلبا أو إيجابا، وفي مجمل ما سجله قلم صاحب الترجمة رضي الله عنه في هذا الميدان سنجد أنه لا يخفي اصطدامه بالجهلة والمترهلين فكريا من القائمين على المراكز التراثية التقليدية، وبعض أدعياء العلم والزهد في بلده والبلدان المجاورة ، ولا يداري أو يواري ضيقه من جهلهم وحسدهم وتلونهم وتشكيكهم في كل عالم أو طالب علم قادر على العطاء والنفع والإبداع في أي مجال علمي أو أدبي أو إصلاحي، ولا يتردد قط عن تسجيل كل محاولات التجاهل والتهميش والتجريح والتشكيك التي تعرض لها ويتعرض لها أمثاله من العباقرة العلماء الصالحين المصلحين، في ذلك العصر وما قبله وما بعده من بعض الأدعياء بطانتهم والمنتفعين من جهلهم وغرورهم ، حيث وثق كل تلك المحاولات وسجلها في صراحة وشجاعة وصدق منقطع النظير، وفي زمن وبيئة كانت المجاملات، والسكوت على المظالم والمناكر، والحرص على تطييب الخواطر على حساب العدل والنهوض الاجتماعي، والتكالب على طلب الراحة والسلامة والدعة والتقاعس عن مواجهة الباطل وأهله ، من أشد الآفات التي اجتاحت تلك البلاد وأنتجت انحطاطا فكريا أدى إلى ازدهار سوق الخرافات والخزعبلات والدعاوى الصوتية الفارغة ، التي مثلت أبرز عوامل التخلف والجهل والظلامية، كما قال الطغرائي في لاميته الشهيرة:
حب السلامة يثني هم صاحبه فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا
عن المعالي ويغري المرء بالكسل في الأرض أو سلما في الجو واعتزل
وتجدر الإشارة إلى أن النقد البناء -القاسي أحيانا- الذي كثيرا ما يوجهه صاحب الترجمة، رضي الله عنه إلى بعض القائمين في مقام أصحاب المراكز التراثية التقليدية في بلده أو منطقته خاصة، أو في حضرموت عامة في ذلك العصر، لا يمس بأي وجه، أصحاب تلك المراكز أنفسهم أو مؤسسيها أو من نسبت إليهم تلك المراكز ، لأنهم كانوا محل تقدير صاحب الترجمة وأمثاله من العباقرة والعلماء ومحل احترامهم ومحبتهم وإعجابهم ، بوصفهم أعلام صلاح وإصلاح وعلم وتقوى ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أو لكونهم شخصيات عامة اجتماعية مرموقة دأبت على تأصيل القواعد الاجتماعية الحسنة التي نظمت السلوكيات الاجتماعية الحضرمية في مختلف المجالات وصار نهجها وممارساتها في هذه الجوانب تراثا تراكميا عميقا ومشرفا تفخر به حضرموت وأهلها في مختلف العصور. لكن نقده ونقد أمثاله من العباقرة العلماء الصالحين المصلحين كان يتجه وينصب دائما على سلوكيات وممارسات بعض -وليس كل- القائمين على تلك المراكز أو المسيطرين عليها من مناصب أو مشائخ أو رموز، من الذين تبوءوا تلك المواقع وهم غير أهل لها بحكم عامل الوراثة أو بدافع من المجاملات والتعصب، أو تحت ضغط التوازنات الأسرية والقبلية، فأدى جهل أولئك النفر وغرورهم وسلوكياتهم المنحرفة بتلك المراكز إلى الترهل والجمود حتى تحولت إلى أدوات تخلف وإعاقة اجتماعية، بعد أن كانت صروح علم وتعليم ودعوة إلى الله وإصلاح لذات البين وإكرام للضيف وأوكار جهل وتجهيل بعد أن كانت منائر للأمن والأمان ومنطلقات لتشجيع وتكريم طبلة العلم وكافة العناصر القادرة على الإبداع والتفوق والعطاء. وإذا أردنا التعرف على بواعث وأسباب ذلك النقد -القاسي أحيانا- لبعض القائمين على تلك المراكز التراثية التقليدية من جانب صاحب الترجمة وأمثاله من العباقرة العلماء الصالحين المصلحين، فيمكن لنا إجمالها على النحو التالي:
- تخلي بعض القائمين على تلك المراكز التراثية التقليدية، عن طلب العلم ونشره والدعوة إليه، وعدواتهم العنيفة -الظاهرة والخفية-لأهل العلم في مجتمعاتهم، وحرصهم على بقاء الجهل والتجهيل والظلامية تسود تلك المجتمعات وتنخر كالسوس في بنيتها وأجيالها.
- اعتقادهم أن مجرد انتسابهم لعالم أو مصلح أو شخصية اجتماعية، يكفي وحده -دون علم وأعمل صالح أو تواضع أو زهد - لبلوغ مصاف ذلك العالم أو المصلح واحتلال مكانته وتميزه ونيل محبة مماثلة لما كان يكنه الناس لذلك العالم والمصلح وما يلقونه به من التبجيل والاحترام. بل واشتط بعض أولئك الجهلة المغرورين بنفسه إلى إدعاء الولاية والفتوح والكرامات، وتوعد من يخالفه بغضب الله ورسوله والمؤمنين وبالرزايا والبلايا والنكبات. وقد أشار صاحب الترجمة رضي الله عنه إلى ذلك شعرا في الكثير من قصائده التي نذكر من بعضها أبياتا على سبيل المثال، كقوله في أحد تلك القصائد:
وبعضهم حاسب إن المستوى بالنسب
لو هي بالانساب ما عم النبي بالهب
سبقه سلمان ذي هو بالفلوس اجتلب
وانت اعرف الفرق بالحالات لا بالطنب
وأعرف لذي الفضل فضله مثل ما الله كتب
وأمسى من آل النبي بين الورى يحتسب
وحاسب إن المروءة بالكساء والسلب
أمسى في النار يصلاها وغيره قرب
وأمسى من آل النبي بين الورى يحتسب
ومد في كل سلعة قيمها ذي يجب
وفند الناس في ساحاتهم والجرب
وأمسى من آل النبي بين الورى يحتسب
- تحسسهم من كل عنصر إيجابي في المجتمع وكل شخص قادر على العطاء والتفوق والإبداع وخدمة المجتمع ، والتهجم عليه وإثارة المشاكل له والشكوك من حوله، وتنفير الناس منه. ومناصبته العداء دون سبب أو داع غير إرادته الخير لمجتمعه وحبه للعلم ورغبته في نشره وتعميمه.
اتخاذ المراكز التقليدية، وسيلة للارتزاق والاستجداء والكسب غير المشروع، مما يفتح باب الصراع عليها بين أبناء أو أحفاد صاحبها أو مؤسسها على مصراعيه على الجاه والوجاهة والحطام فيسيئون إلى صاحب المركز أو مؤسسة أبلغ إساءة ويعكسون صورة خادعة مضللة عنه وعن أهدافه الخيرة ومواقفه المشرفة وتاريخه المشرق.
إحاطة أنفسهم بهالة من العصمة والقداسة والترفع عن قبول النصح والنقد البناء والرفض المطلق لحق الاختلاف في الرأي والتعدد في وجهات النظر والتنوع في القدرات والمواهب، حتى خرجوا بتلك المراكز عن كونها وسائل لنشر العلم والدعوة إلى الله وإصلاح ذات البين وجمع الشمل وإكرام الضيوف إلى مجرد مظاهر وأشكال موسمية جوفاء هدفها الارتزاق والتغني بأمجاد الماضي الذي لا يسنده دليل من ممارسات الحاضر وواقعه. كل ذلك مقرونا باعتبار أي دعوة مخلصة للتطوير والتعامل مع الواقع بوعي واستنارة والاهتمام بشئون المجتمع كفرا وتجديفا وقلة أدب.
إن تسجيل تلك الأوضاع التي سادت المراكز التراثية التقليدية من قبل الباحثين المؤرخين والعلماء المصلحين كانت ضرورة توجبها أمانة التاريخ، ومتطلبات النصح والعظة والعبرة التي هي من أبرز فوائد حفظ التاريخ وتسجيله وتوثيقه. وإذا كانت تلك الأوضاع عبارة عن ظواهر سلبية لفتت الانتباه وأوجبت التنبيه، فإن الأمانة تقتضي الإيضاح بأنه ليس كل من قام في مركز من المراكز التراثية والتقليدية موصوما أبدا بتلك العيوب والسلبيات التي أجملناها وفصلها صاحب الترجمة رضي الله عنه وأمثاله من العلماء والمؤرخين، بل ربما شهدت المواقع الأولى في الكثير من تلك المراكز في بعض عصور الازدهار العلمي والثقافي والإصلاحي في حضرموت شخصيات مرموقة اتسمت بالزهد وغزارة العلم ورجاحة العقل وكرم النفس، فجدت واجتهدت وجددت وعملت قدر طاقتها لما فيه خير دينها ومجتمعها في صبر وصدق وتواضع يشد الإعجاب والتقدير.
وقد يرى بعض من يطلع على هذا الصفحات في هذا الباب أن نقل وتسجيل ما شرحه وفصله صاحب الترجمة سيدنا الحبيب علي بن حسن العطاس رضي الله عنه حول تلك الظواهر والسلبيات، لم يكن محمودا وملائما من منطلق أنه ربما أثار بعض الحساسيات لدى بعض المعاصرين، وربما فتح أبوابا من سوء الفهم أو سوء الظن كان الجميع في غنى عنها.
ومع احترامنا لكل رأي يخالف ما قمنا به أو ذهبنا إليه، واقتناعنا التام بأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، نرى عكس ما قد يراه البعض في هذا الجانب، ونؤمن بأهمية وفائدة هذا النقل عن صاحب الترجمة لكل الأجيال وعلى كافة المستويات، مع احتياط وحيد يتمثل في تجنب ذكر أي أسم من أسماء الذين ابتلاهم الله بتلك الآفات والسلبيات -إن وجدت في ثنايا تلك القصص والروايات- حتى تبقى من القصص والروايات التي ذكرها صاحب الترجمة رضي الله عنه مدلولاتها وعبرتها فقط وتستبعد أي إشارة قد تؤدي إلى سوء فهم أو ريبة في أهدافنا من هذا النقل والتوثيق والتسجيل
ورؤيتنا في أهمية ووجوب النقل والتسجيل في هذا المضمار تنبثق من المنطلقات التالية:
- إن الصراحة والشجاعة في قول الحق ومواجهة الظواهر السلبية في المجتمع رغم كل المحاذير وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من متاعب ومكائد، علامة بارزة من علامات العبقرية والنبوغ والتميز في من أنعم الله عليه بتلك المزايا والقدرات، وصاحب الترجمة، الحبيب الإمام علي بن حسن العطاس رضي الله عنه، كما تشهد سيرته وأخباره ومؤلفاته وقصائده، قد ذهب بالنصيب الأوفى من هذه المزايا والقدرات، وحري بمن يكتب عنه وعن عبقريته ونبوغه أن يقدم من الأدلة المفصلة بالأمثلة المحددة على تمتعه بتلك المزايا والقدرات ما يبرهن على صدق وحقيقة ما يقول.
- إن بعض الباحثين في سير أسلافنا الصالحين، في الماضي والحاضر، يمدون -بقصد أو بغير قصد- بساط التسبب في وجود تلك الظواهر السلبية والتعصب لها على كافة العلماء الأعلام من السلف الصالح وفي مقدمتهم أصحاب المراكز التراثية التقليدية أو مؤسسيها الأوائل، وخصوصا عندما يرون بعض أو كل تلك الصفات المذمومة في واحد أو اكثر من القائمين على تلك المراكز أو المنتسبين إليها في عصرنا الحاضر ، ولكي نثبت للتاريخ خطأ ذلك الاتهام الظالم وتناقضه مع الواقع، وأن السلف الصالح بري كل البراءة من ذلك الاتهام بل وفي ذلك السلف العظيم في كل جيل، علماء أعلام بارزين مثل صاحب الترجمة كانوا ممن اكتووا بنار تلك الظواهر السلبية وممن شنوا عليها حربا ضروسا لا هوادة فيها، أقول أنه لكي نثبت للتاريخ خطأ ذلك الاتهام يجب علينا أن نقدم قصص وأمثلة حقيقية وموثقة على صدق ما نقول.
إن دواعي الإنصاف والالتزام بعدالة الحكم وسلامة التقييم لما كتبه هذا العبقري العلم المصلح سيدنا الأمام علي بن حسن العطاس في هذا المضمار تقتضي ملاحظة حرصه على التبعيض وليس التعميم، فيقول بعض أهل كذا، بعض أهل بلد كذا، بعض المشتغلين بكذا، ووجود مثل هذا البعض السلبي في سلوكه ومعاملاته في أي مجتمع من المجتمعات ظاهرة إنسانية متكررة ومفهومة لا يستطيع أن ينكر وجودها في أي مجتمع إلا مكابر ليس لإنكاره ومكابرته وزن أو قيمة بين الباحثين والدارسين. لقد اسقط بعض نساخ مؤلفات صاحب الترجمة رضي الله عنه كلمة -بعض- التي يقدمها في الحديث عن أي فئة مبتلاة بمثل تلك الظواهر السلبية في أي بلد من بلدان حضرموت أو خارجها، سهوا من أولئك النساخ كعادة الكثير منهم أو استخفافا بقيمتها أو جهلا بأهميتها البالغة في بعض المواضع، مما حدا بنا إلى البحث والتنقيب عن أكبر عدد ممكن من نسخ هذه المؤلفات التي وجدنا في الموثوق منها دقته وحرصه على التبعيض عند ذكر الظواهر وليس التعميم.
إشارة صاحب الترجمة رضي الله عنه، إلى وجود تلك الظواهر السلبية في "بعض" أهل تريم، بالذات، وهي مدينة العلم والعلماء الأعلام في حضرموت، جاءت من منطلق تقرير الحقائق التاريخية ولفت الانتباه إلى خطورة مثل تلك الظاهرة السلبية التي لم تنح منها حتى "تريم" بلد العلم والفضل ولم يستثن منها أهلها، كدليل ومؤشر على استفحالها وسرعة تفشيها ووجوب تداعي العلماء والمصلحين إلى التحذير منها وعلاج المبتلين بها بالنصح والإرشاد والإقناع ولم تكن تلك الإشارة بدافع التجريح أو التقليل من قيمة "تريم"، تلك الحاضرة العلمية العظيمة والعزيزة على قلب صاحب الترجمة وكل أمثاله من العباقرة العلماء الصالحين المصلحين، أو من قيمة أعلامها الأجلاء من معاصريه أو ممن سبقوا عصره، لأنه رضي الله عنه كان يكن لمدينة تريم وعلمائها كل المحبة والتقدير والاحترام كما تشهد بذلك كتبه ومؤلفاته وقصائده وتحفل بها، وكان رضي الله عنه كثير التردد عليها لطلب العلم والانتفاع بعلمائها وصالحيها وزيارة مشاهدها ومدارسها وأعلامها المرموقين الذين ترجم للكثير منهم مما دفع بنا إلى عقد فصل مستقل في هذا الكتاب عن زياراته لتريم وعلاقاته بعلمائها وصالحيها.
الملاحظ في عصور الانحطاط، ظهور الكثير من المغالطات والدعاوى المشوهة التي تجتاح أوساط بعض المنتسبين إلى طريقة السلف الصالح من السادة بني علوي، في موطن ذلك النهج ومنبعه أوفي المهاجر القريبة والبعيدة، وتتمحور تلك المغالطات والدعاوى في مقولة مزعومة، كانت تتناقلها أفواه العجائز وأشباه العجائز،في عصور الانحطاط مفادها أن طريقة السادة بني علوي، طريقة جمود وعزلة عن الحياة العامة وأنها تؤثر الانسحاب بأتباعها عن الاهتمام بشئون المسلمين، وتحرص على تجهيلهم بأساليب التعامل مع الواقع، وتحرص على إنزوائهم في المعاهد ومجالس الذكر وعلى إغراقهم في دراسات مجردة بحتة في اللغة والفقه.
وفي هذه القصيدة العصماء لصاحب الترجمة الحبيب علي بن حسن والتي هي غيض من فيض، نجد نفيه الكامل لهذه المقولة الرعناء، والتعبير عن تصميمه وعزيمته الصلبة الصادقة، على مواصلة أداء عمله العام الخير وسعيه الدؤوب في خدمة دينه ووطنه ومجتمعه على قدم السالفين من آبائه الكرام سلالة سيد الأنام ما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه حول طريقة الأسلاف الكرام من بني علوي الأعلام. قال رضي الله عنه وأرضاه:
قسما لأنهى عن منامي مقلتي حتى تُوسّدَ في التراب عظامي
وأقوم في نفع البرية دائما لله والإسلام أيُ مقامِ
بالسعي فيما يستحق أمانهم من خوفهم والسُقي والإطعامِ
متطلعا أبداً إلى الرُتب العُلا قدماً بأقدامٍ إلى إقدامِ
بالمال والحال المكين وبالدعاء لا انثنى عن شأوها لملامِ
بخميسها وخميسها فخميسها كم في الملأ من ضيغمٍ ضرغام
آل الرسول السادة الغُر الأوْلى سبقوا إلى العليا جميعَ أنامِ
وبعزم أهل العزم من نوحٍ إلى موسى وعيسى بعد إبراهامِ
قوٌم أقام الله ُ أركان العُلا فيهم واطفي حرَّ كُلَّ ضِرامِ
واختصهم رب البرية بالولاء ولما بداهم راحماً بسلام
فالحمد لله الذي جعل النبي طه أبي ووسيلتي وإمامي
والحمد لله الذي أهدى لنا ومن فضله من أوفر الأقسام
والحمد لله الكريم بحمده حمداً يفوق الحمد بالإتمام
يا رب وفقنا لشكرك دائما فعلا وقولا إن جودك طامي
واجعل صلاتك والسلام على الذي فضلته في المبتدأ وختام
وبعد هذا الإيضاح الذي لابد منه في اعتقادنا، نتجه هنا إلى نقل الأدلة والقصص الحقيقية المعبرة بصدق ودقة في هذا المضمار من مؤلفات صاحب الترجمة رضي الله عنه وأرضاه ببعض التصرف غير المخل بالقصد والمعنى حيث يقول:
{إني لما طلبت العلم حسبما حققته فيما تقدم، وكانت الجهة الكسرية والحضرمية والدوعنية خصوصا بلد حريضة ونواحيها، قليلة وجود الكتب التي يحتاج الإنسان إليها في فنون العلم، وإن وجدت مع آحاد فغالبهم من الحساد الذين يضنون ويمنعون الماعون، وخصوصا بعض أهل حضرموت (ويقصد "بحضرموت"، المنطقة الواقعة من بلدة "الحمّة" غربا إلى ضريح نبي الله هود شرقا، في اصطلاح أهل الوديان المرتفعة في حضرموت كالكسر ودوعن ووادي عمد ووادي العين وبعض المرتفعات الجبلية ومنطقة الساحل، بحكم أن الحواضر الحضرمية الشهيرة التي شهدت المواقع الكبرى وعرفت تسجيل أحداث تاريخ حضرموت تقع في تلك المنطقة، كما يسمي أهل صعيد مصر القاهرة بمصر، فيقولون سنذهب إلى مصر وقصدهم القاهرة، وكما يسمي أهل الشام دمشق بالشام فيقولون سنذهب إلى الشام أو جئنا من الشام وقصدهم دمشق ،وسيتكرر هذا الاصطلاح كثيرا في كلام صاحب الترجمة فالرجاء أخذ هذه الملاحظة في الاعتبار) خصوصا بعض من أهل "تريم" ومن والاهم وجالسهم ومالاهم من أهل جهة الكسر ودوعن، حتى أنهم والعياذ بالله، لا يذكر الإنسان عندهم ولو بكلمة وخصوصا من ذكر وشكر أو عرف بطلب العلم واشتهر، وقد حققت جملة مما في مناصب تلك الجهات من قبيح الصفات، في منظومة مطلعها:
وسلالة الأخيار ممن ينظرا يا أبناء المناصب والرجال الكبراء
وربما ذكر الإنسان عندهم فلا يثنون عليه بخير، والعاقل منهم هو الذي يسكت عن ذكر الفضائل، خشية على مروءته أن يظهر منه الطعن في أهل الخير بأن يؤمي إلى اللعن، حتى قال بعض من يجالس بعض المشهورين منهم: إني لم اسمع شيخي يؤيد شيئا من كلام علي -أي صاحب الترجمة- فبلغني ذلك فقلت للمبلغ قل له لا تعجب، فأن النواصب لم يؤيدوا كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ومع وجود الكتب المذكورة يسر الله لنا ذلك من جميع المسالك والممالك، فالحمد لله الأحد المالك: شعرا:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
فانحازت باردة إلينا غنائمها، وتوفرت واردة بالقسمة مقاسمها، ومنها أني استعرت كتابا وهو شرح الملحة -في النحو- للشيخ دعسين الأموي، البسيط الذي أعرب أبياتها فيه، من بعض الناس وأخذت في مطالعته فلما بلغت فيه إلى النصف أو دونه، جاء مالكه وقال: هات الكتاب، فإني أريد القراءة فيه، وكان قد حصله بيده في نسخة عجيبة، فقلت له: إنا بعد في مطالعته وما تركتنا جواذب الشده (الشده، بكسر الشين وفتح الدال وتسكين الهاء كلمة من اللهجة المحلية الحضرمية تعني الأشغال والمسئوليات المتعددة)، فإن شئت تركته عندنا حتى نفرغ منه فقال إني أريد القراءة فيه وعادنا أرجعه بعد إليكم إن شاء الله، وأصر على أخذه منا مع علمه بعزة ذلك الكتاب علينا واحتياجنا إليه، فأعطيناه الكتاب، فلم نلبث إلا مدة يسيرة حتى مرض ذلك الرجل ومات، وجاء ورثته بجميع كتبه إلينا، وقالوا: أردنا بيعها وما كان يصلح لكم فخذوه، فأول ما وقعنا على الكتاب الذي أخذه منا، وإذا بعَلَم مطالعتنا فيه باق على حاله، وتصفحنا الكتب، وأخذنا منها شرح قطر الندى لمصنفه الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ يوسف بن عبد الله بن هشام الأنصاري، المتبحر في علوم النحو صاحب كتاب المغني والأوضح والإعراب وغيرها، وأخذنا منهم أيضا كتاب فتح الجواد بشرح الإرشاد، في أربعة جلود بعضهم أخذ منا القيمة، وبعضهم سمح بها لخصوصية لا لخصاصة، تمم الله فضيلته ومكن فينا وصلته، وأما شرح الملحة فلم يطلبوا كلهم قيمة، لما أخبرناهم بالقصة حذرا من الشماتة بمصيبة المؤمن.
ومنها أني طلبت من بعض أهل العلم من أهل حضرموت المناصب، كتاب طبقات الصوفية الكبرى للشعرواي، وهي عنده في جلدين، فأنعم بها لي وتعلل بواحد من أجزائها عند إنسان، أعاره إياه وأوعد بإرساله إلينا عند وصول الجزء المذكور، ثم ذاكرته بكتاب من حريضة إلى حضرموت، فأجاب بأنا قد نوينا إرساله إليكم وتراه يصلكم، فأرسلت له رسول معني -أي خاص- ، لأني به -أي بالكتاب المذكور- معنّا، فاعتذر عنا فلم نلبث إلا أياما قليلة وتوفي صاحب الكتاب فجأة، فذكّرت وارثه، وأرسلت له كتابا ونبهته على قوله -أي المورث المتوفى- في كتابه: قد نوينا إرساله إليكم، وقلت له: من حقك إن ترسل إلينا الكتاب لتمام ما نواه والدك، فاعتذر علينا من إعارة الكتاب، فلما سرنا إلى الشحر في سنة 1163 هجرية،، اتفقنا بالحبيب الحسين بن علوي بن جعفر مدهر، وسألناه عن طبقات الشعرواي الكبرى المذكورة، فقال هي عندي في جلدين، وهاكم إياها، فحين وقفنا عليها إذا هي طبقات المناوي، وهي أيضا طلبنا وضالتنا الضاوي، فعبرنا فيها، وهي أجمع وأوسع من طبقات الشعرواي، بسبب أنه -أي المناوي- متأخر بعده، وهو في العلم مساوي، وترجمه فيها -أي ترجم الشعرواي- بأحسن التراجم والفتاوى. فلما كان بعد مده سرنا إلى وادي عمد فاتفقنا بالحبيب علوي بن عبد الله الكاف فسألناه عن طبقات الشعرواي المذكورة، فقال هي عندي وهاكم إياها، فهي الآن عندنا في سنة 1169 هجرية، فتقبل الله من أهل الفضل، وسامح أهل البخل، بمنه وكرمه، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة، ومعطي خيري الدنيا والآخرة، إن أعطى فلا مانع، وإن منع فلا معطي.
ومنها أني جئت إلى بعض الخزائن استعير من أصحابها بعض الكتب، وهي أربع خزائن، وقد مات العلماء من أهلها وما بقي إلا أهل جهلها "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا. إلا من تاب"، فقلت لهم هاتوا كتاب الفلاني وكتاب الفلاني، إلى تسعة كتب، وهاكم تسعة مجلدات قباضة لكم -أي رهن عندكم- حتى أرجع حقكم، فقالوا: قد منعنا فلان وفلان من أكابر السادة وأنت تكون كماهم، فقلت لهم: أما أنا فلا باس، ولكن مثل هولاء الذين ذكرتم أنكم منعتم منهم ماعون الكتب المذكورة ما لقيتم خيرا في أنفسكم بمنعهم، وقد كنت في أول الطلب -أي طلب العلم- جئت إلى هذا المكان وعلى هذه الخزانة -خزانة الكتب- رجل قائم من الصالحين، وذلك في زمان جدي وشيخي ووالدي/ الحسين بن عمر -بن عبد الرحمن العطاس- وكان هذا الرجل من أهل الخير وسلامة الصدور، وقد كان جدي عبد الله -بن حسين بن عمر العطاس- وصاني أن آتي له بكتاب مشكاة المصباح في شرح العدة والسلاح في أحكام النكاح، مع صغر سني، قال لي - أي القائم على خزانة الكتب- : يا ولدي ما لك حاجة بالنكاح، وعادك ما شبرمت -كلمة من اللهجة المحلية تعني ما شبيت عن الطوق، أو ما وصلت سن البلوغ بعد-. فقلت له إنه -أي الكتاب- للوالد عبد الله، وعجبت من غاية غفلته مع كبر سنه ومنصبه، فأعطاني الكتاب.
ومنها أني جئت كذلك إلى بعض الخزائن الموقوفة بنظر بعض البخلاء المانعين الماعون، المصلين وهم لاهون، "الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون"، فأعطاني الجزء الأول من كتاب شرح صحيح مسلم الذي فيه المقدمة العظيمة التي على كل علم من علوم الحديث مترجمة، فأخذت في قراءته حتى أتممته، وطلبت الثاني منه فامتنع من أعارته، ثم جئته مرة ثانية وطلبت الجزء الأول من كتاب القاموس المحيط، في ما ذهب من كلام العرب سماميط، فأعطاني الجزء الأول منه وهو أربعة أجزاء بخط حسين مليح، وسرت من بلده إلى أخرى، فإذا به قد وصل خلفي وقال: هات الكتاب الذي أعرتك إياه، فإنه مما لا تسمح نفسي بمفارقته، فقلت له: إنه وقف آل فلان، وأنا أعرفهم إنهم غير ذلك الإنسان، فقال: لكنه بيدي وأنا أحق به من أهله ومن غيرهم، وكانت عنده جملة من الخزائن لأهل هذا الكتاب المذكور، ولغير أهله، هي وخزائن أخرى بنظره بحيث أن هناك عدد عده شي لا يحصى من الكتب الموقوفة والمملوكة لهم ولغيرهم، وأخذ الكتاب مني عدوانا وظلما وحسدا وبغيا وشحا وبخلا بما لا يملكه وإنما هو مهلكه، فحينئذ قلت: اللهم سلط عليه من يأخذها منه كما أخذ هذا الكتاب هو مني، فقام عليه في الآن رجل صالح من أولاد أهل الخزائن، وأخذها خزا منه وهو غير زائن، فلم ادري إلا وهذا الرجل الصالح من الذين أخذوها منه قبل أن أعلم بذلك، يكتب لي أن أطلب ما شئت من هذه الكتب، وربما سمى لي بعضها مما لا اعلم باسمه. ومنها أني جئت إلى بعض الخزائن أطلب شيئا من الكتب فلم أجدها، لأنها قد أخذها هذا الرجل البخيل المتقدم ذكره فلم يبقى إلا جلد واحد وهو الذي عليه البار، وهوي كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، المشار إليه في خطبته بقول مؤلفه: "فهاك كتاب تشد الرحال فيما دونه، وتقف عنده فحول الرجال ولا يعدونه"، فأخذته فإذا هو طلبتي، وفيه قضاء حاجتي، وهو عندي بحمد الله إلى الآن.
ومنها جئت مرة أخرى أطلب كتابا من بعض الناس فلم أجده، فإذا على صفح كتاب عنده الكتاب الذي نطلبه، وهو حاشية أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، في مكان الفلاني، فأرسلت إلى المكان فوجدناه وقد أخذت منه جل الكتب بحيث لم يبق إلا هو.
ومنها أني طلبت كتاب الناسخ والمنسوخ من جملة مواضع من الساحل إلى تريم وسيئون، فكل من سـألته أو كتبت له فيه اعتذر بأنه لم يسمع به فضلا عن أن يقف عليه، ومن جملة من أجاب علي بذلك الحبيب الشيخ العلامة الشريف علي بن عبد الله السقاف باعلوي، فبينما رجل من الذين ذاكرتهم قاصدا زيارتي من مسيرة خمسة أيام، فاتفق أنه أمسى في مكان عند بعض الناس، فوقعت يده في المنزل على رف طاقة فإذا هو يجد فيه مثل جلد الكتاب وقد لصق بالسفرة التي هو عليها بسبب الأرضة التي قد أرادت أكله ففكه منها بالشفرة فلما تصفحه فإذا فيه كتاب الناسخ والمنسوخ الذي كتبت له فيه، فجاء به معه، وأخذناه وكتبناه وقابلناه وذلك في سنة 1145 وأرجعناه إليه، فلما عوزنا منه مرة ثانية، ضن به علينا مع علمه أننا بعد ما نقضي منه حاجتنا نرجعه إليه، فالعياذ بالله من أهل تالي الزمان والله عليهم المستعان} 187-192 السفينة ج1 بتصرف.
وبعد أن ذكر اتصاله بالحبيب العلامة الصالح المصلح/عمر بن عبد الرحمن البار الذي كان يمده في أريحية عظيمة بالكتب والمراجع بطلب منه وقبل أن يطلب أحيانا، تقديرا من العلامة الحبيب عمر البار لنبوغ صاحب الترجمة وخدمته للعلم، والذي نقلنا عن ذلك بتفصيل في باب "مشائخ صاحب الترجمة وعلماء عصره" وبعد أن استطرد في ذكر قراءته في كتب الشيخ عبد الله بن اسعد اليافعي واهتمامه بها -كما نقلنا ذلك في باب زياراته لمراقد ومشاهد الصالحين- قال رضي الله عنه: {وقد طالعت والحمد لله جملة من الكتب المصنفة، في فنون العلوم المؤلفة، مما لا يحصى ولا يستقصى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)(3) (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)(4) (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(5) (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(6) (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(7) ربي زدني علما، ربي زدني علما. ولا تظن أني عددت شيئا مما يعد ولا حددت بعض البعض مما يحد، من نعم الله السوابغ الجزيلة علينا وعلى الناس (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)(8) على عاجل منها ولا آجل ولكني اختصرت واقتصرت في هذه الترجمة، على ما نظرت وسطرت من الفضائل والفواضل، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(9)} ص 201و202 السفينة ج1
مــلــكــة الــحــفــظ الــمــبــكــرة
--------------------------------------------------------------------
قال رضي الله عنه { من نعم الله علي أن آتاني ملكة الحفظ من فيض فضل المفضل المفيض، فكنت أحفظ بحمد الله ما لا أقدر على وصفه ولا وصف نصفه و لا نصف النصف، وأذكر كل ما حفظته وزمن الحفظ ذكرا واضحا لا شك فيه، وكلما نظرته عقلته وعلمته ثم حفظته وإلى الآن فسبحان خالق الإفهام والحوافظ والأذهان. وحين دخلت العلمة -أي الكتّاب- وأخذت في قراءة القرآن العظيم، فكل من رأيت عليه أثر النجابة في القراءة تمنيت بلوغ مرتبته، وقلت متى أكون مثل هذا.
قوة الذاكرة ونور البصيرة
--------------------------------------------------------------------
قال رضي الله عنه { ومنها أني كنت بحمد الله إذا قرأت الكتاب يبقى ما فيه في بالي ولو بعد مدة، نثرا كان أو نظما، وإذا قرأ القاري علي مثلا في كتاب، وفصل القراءة مدة عشر سنين ثم جاء يقرأ ثانيا، قلت له وقفت في الفصل الفلاني والسطر الفلاني، وآخر قراءة لك في منزل كذا وبحضور فلان وفي ساعة كذا، وكنت إذا طبقت الكتاب وأردت نكشه -أ ي فتحه- ثانيا أقول للذي يفتح الكتاب، إن الكلام المطلوب في صافحة نمور الفلاني -أي صفحة رقم كذا- وكنت إذا قرأت في الكتاب الرفيع - أي دقيق الخط- تتكون في نظري حروف كتابته كأنها العيدان الجليلة، بحيث أني أراها من بعد، وكنت إذا قرأت مثلا كتابا قم قرأت كتابا آخر قد نقل صاحبه، -أي مصنف الكتاب الثاني من هذا الكتاب -أي الكتاب الأول-، أعلم من أين نقل وأدري بما عزاه -إلى الكتاب الذي نقل منه - وما لم يعز ما نقله منه إلى مصنفه، وارى بعضهم والعياذ بالله قد ينقل بابا أو فصلا أو مسألة مثلا بجوابها من بعض المصنفات ولا يعزوها إلى مصنفها، وهذه هي السرقة، ورأيت الكثير من ذلك في مصنفات الشيخ دعسين الأموي لا سيما شرح الملحة له، وشرح القصيدة التي للبوصيري التي يقول في أولها:
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن على كل ما قدمت مسئول
فإنه نقل في الكتابين من -كتاب- معني اللبيب عن كتب الأعاريب، للشيخ الحبر الإمام عبد الله بن يوسف بن عبد الله الأنصاري، بغير عزو -أي بغير إسناد إلى الكتاب المنقول عنه، وهي فصول -أي فصول كاملة نقلها الشيخ دعسين عن مغني اللبيب- شرحها يطول، حتى سمعت أن مولانا الحبيب عبد الله بن علوي الحداد، لما قري عنده كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر الصغائر- لأبن حجر وسمعه ينقل مثل هذا بغير عزو لأهله قال "شف شف شف" بنهر وإنكار لقلة العزو، وكنت إذا سمعت بذكر الحفاظ من السلف، وعلمت ما منّ الله به عليهم، أقول الحمد لله الذي قال (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ)(10)} ص 207و208 السفينة ج1. ومن هذه الفوائد الصادقة الجليلة والعبارات السهلة الجميلة، نستشف مما سطره قلم صاحب الترجمة رضي عنه عن هذا النعم الإلهية والعطايا الربانية
الحقائق التالية:
- لقد أصغى صاحب الترجمة رضي الله عنه للتوجيه الرباني ، في قوله جلت قدرته لعبده ورسوله سيد الأولين والآخرين محمد صلوات الله وسلامه عليه (وأما بنعمة ربك فحدث) فأنصت ووعى واهتدى بهدي كتاب ربه فاقتدى، فلم يترك نعمة من نعم ربه عليه إلا وتحدث بها وسجلها عرفانا وشكرا وتبيانا وذكرا.
وأصغى إلى قول جده المصطفى صلوات وسلامه عليه وعلى آله حين قال في الحديث الشريف (إلا إن لله في أيام دهركم نفحات إلا فتعرضوا لها) فتعرض لها بصدق المؤمنين الصابرين وأدب العارفين المعترفين وقلب الشاكرين الذاكرين.
وأدرك مبكرا أنه في بيئة كثيرا ما ضاع فيها العباقرة والأفذاذ في غياهب النسيان ومعهم كل ما حباهم الله به من عطايا ونعم وميزات وقدرات ومواهب بسبب قلة الاكتراث بالتدوين والتسجيل والتوثيق والحفظ، أما إفراطا في التواضع، أو تفريطا في حق التاريخ العام والأجيال المتعاقبة، فكان من أوائل الذين سدوا في تاريخ أمتنا هذه الثغرة وأدركوا أهمية تسجيل الحقائق تعليما وإرشادا، لا تفاخرا أو دعوى، مع كل التواضع المحمود ونسبة الفضل لمن له وحده لفضل جلت قدرته وتقدست أسماءه.
في ما يطرحه صاحب الترجمة رضي الله عنه من حقائق وأفكار على المستوى الشخصي أو العام نجد أن عقلية وطبيعة المفكر المنطقي الفيلسوف تبرز جلية في سياق تلك الحقائق والأفكار من خلال حرصه الدائم على إقران القضية التي طرحها بدليلها من القرآن الكريم أو السنة النبوية أو عمل السلف الصالح، وكأنه من خلال ما يكتب في حوار مفترض يستوجب دعم كل حقيقة أو فكرة بدليليها الذي لا ترتقي إليه الشبهات.
الأمانة العلمية في النقل والإسناد، وهي قضية من أخطر القضايا في عالم الكتابة والتأليف بوجه عام، لأنه في ضوء احترامها والالتزام بها تحدد أصالة أو سطحية أي مدرسة دينية أو فكرية أو علمية، وتتجه من خلال العناية بتلك الأمانة الأنظار إلى أي مدرسة بالعناية والتقدير والإكبار أو بالتجريح والاستهانة والإعراض . فلم يكتف قلم صاحب الترجمة رضي الله عنه وعقله الموسوعي بذكر موقفه الحازم والصريح من هذه القضية المتمثل في وجوب التمسك بالأمانة العلمية واحترامها وفي نقد المستخفين بها والمنحرفين عنها والشك في قدراتهم العلمية، بل تعدى ذلك بقوة شخصيته وصراحته المعهودة إلى ذكر بعض الأمثلة المحددة في هذا المجال لمن يستهينون بهذا الأمانة ويتخلون في مؤلفاتهم عنها، وإلى طرح وتأصيل موقف مدرسته الدينية والفكرية من هذه القضية، بإبراز موقف أمام عظيم من أئمتها ومرجع كبير من مشيدي صرحها ومقعدي قواعدها وهو محي الطريقة وقطب الدعوة الإرشاد سيدنا الإمام عبد الله بن علوي بن محمد الحداد، رضي الله عنه وأرضاه من قضية الأمانة العلمية التي أو جب تجاوزها والاستخفافبها في مؤلفات أحد المؤلفين استنكاره وتبرمه وضيقه.
الظهور المبكر لسيما الصلاح والتقوى عليه
--------------------------------------------------------------------
يقول رضي الله عنه { ومن رآني من جميع من رآني من أهل الفضل والنبل قال لي بالبشارة وأوما إلى بالإشارة من النساء والرجال، وغالبهم يقول لي: أنت من الذين إذا رأوا ذكر الله، وكنت في ذلك الوقت اعتقد بصفاء الاعتقاد ووفاء الافتقاد كل من رأيت عليه سيما الخير من شريف أو فقير أو جندي أو امرأة أو كبير أو صغير} ص 175 السفينة ج1 بتصرف.
حسن الظن والشغف بمجالس القرآن وأداء السنن
--------------------------------------------------------------------
قال رضي الله عنه: { وكنت إذا أتي بعض الأغراب من النساء والرجال تبعته وطلبت منه الدعاء، واستمعت عنده القرآن، وربما كان بعض الناس يطعن فيه، فأسمع ذلك فلا يزيدني إلا اعتقادا في ذلك الشخص، وكنت إذا علمت بجنازة في المسجد أبيت مع القراء عليها طول الليل، أقرأ واستمع في المصحف على الحفاظ، بحث أن أهل الحفظ يفرحون بحضوري لأجل الرد عليهم، فلا يخطر ببالي المنام، وربما كان بعض القراء يقرأ لأبي عمرو وأنا أقرأ لنافع، فيقول:
" إنما أقرأ لعمرو يريد لأبي عمرو، فأقول هذه قراءة عمرو موافقة له -أي يوافقه صاحب الترجمة تأدبا بحكم صغر السن- وكنت ألازم الأذكار والحضرات في جميع الأوقات، على المواخذ (قصائد المدح في الرسول التي تنشد جماعيا بطريقة جميلة ومؤثرة) المعروفة لأهل الشوق والذوق، مثل الإمام الشيخ علي بن أبي بكر وأبنه عبد الرحمن، والشيخ أبي بكر بن عبد الله العيدروس العدني، والشيخ عمر بن عبد الله بامخرمه، والشيخ عبد الهادي السودي، وأبن الفارض، واحفظ من ذلك ما لا يحصيه بعدد إلا مالك الملك جل شأنه، وكذلك المولد احفظه واقرأه في الجامع، وربما حصل الإنكار علينا من بعض حشوية العصر الذين همهم اكتساب الدنيا بالدين، ومعاداة أهل بيت سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وإذا علمت بحضرة ذكر لله أو لقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو ختم للقرآن بمكان سرت إليه ولو إلى بعيد، حتى أني لما عرفت بذلك، كان بعض من أهل "هينن" (مسقط رأس والدته وأخواله آل اسحق بحضرموت) إذا لقيني يضحك مني ويقول: "هاه شي ختم اليوم في مكان أو مولد أو حضرة" على سبيل الاستهزاء} ص176و177 السفينة ج1.
قوة الفراسة والصفاء الروحي :
قوة الفراسة النافذة في أعماق الحقائق وأغوار الضمائر، ونوار نية البصيرة المستمدة من نور السميع البصير جلت قدرته، وشفافية النفس المطمئنة وهبا من مواهب الذي يختص برحمته من يشاء وكسبا من إشراقات الزهد والعبادة والرياضيات المتصلة، وصفاء الروح المترقية في سلم اليقين حالا إثر حال ومقاما إثر مقام حتى وصل بها الفضل الإلهي إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، كانت كلها من أبرز صفات صاحب الترجمة رضي الله عنه وأرضاه التي تأكدت واشتهرت وطبق صيتها الآفاق وسارت أخبارها في أرجاء المعمورة حتى أصبحت من الحقائق اليقينية التي لا ترتقي أليها الظنون أو الشبهات. ومن معين تلك الصفات العظيمة، ومن أشعة البصيرة الناظرة بنور الله كما جاء في الحديث الشريف (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) كان الله جلت قدرته كثيرا ما يخرق له العادات في كثير من القضايا والمناسبات وكان رضي الله كثيرا ما يؤمي إلى بعض الحقائق والحوادث قبل وقوعها، بعلم من لدن الحكيم العليم أو يخرج بعضا من دخائل النفوس وبواطنها بقدرة القادر العظيم، سلبية كانت الدخائل أم إيجابية. (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)(11) (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)(12) (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(13) ومن باب التحدث بنعمة الله وفضله التي عرفها صاحب الترجمة رضي الله عنه فشكر وتحدث وعبر، قال رضي الله عنه وأرضاه
{ومنها -أي من قصص وحوادث بحثه عن كتب العلم وأسفار المعرفة- إن بعض الناس أخذ كتابا من كتب الوالد الحسين بن عمر -بن عبد الرحمن العطاس- على سبيل السرقة، وهو لا يقرأ الكتب، وأراد إخفاء ذلك الكتاب ولم يعلم به أحد، فطلعت يوما بتيه، فلما قابلت المكان الذي فيه خباء الكتاب، قلت لزوجته وهي في المنزل، هاتي الكتاب الذي عندك، فجاءت به إلى من غير مراجعة ولا مدافعة، ولم يسبق لي إعلام ولا كلام بأنه عنده، فلما أخبرته بذلك سكت ولم يتكلم.
ومنها أني لما أردت القراءة ثالث مرة أو رابع مرة في كتاب معالم التنزيل في تفسير كتاب الله الجليل للإمام الحفيل الحسين بن مسعود البغوي، طلبت النسخة من عند بعض الناس وهي عنده في أربعة جلود، فقال: نعيرك إياها بشرط أن الجزء الذي ضاع منها وفقدناه نجده. فقلت: إن شاء الله، فأعطاني الجزء الأول وكان الذي يقرأ فيه الولد النجيب الفقيه عبود بن عفيف، وكان صاحب هذا الكتاب من أهل "بظه" -بدوعن حضرموت-، ونحن في تلك الأيام قد نزلنا بلد "الهجرين" في حدود سنة 1155 هجرية، فاتفق أنا جئنا إلى "بظه" لقصد السعي في إصلاح ذات البين بين المشائخ آل العمودي، ومن عادتنا أن نحمل حمولة من الكتب التي نقرأ فيها حيثما سرنا، فينما نحن ببلد "بظه" نقرأ في بعض أجزاء التفسير المذكور، إذ دخل علينا رجل لا نعرف أسمه ولا أسم أبيه ولا أمه، وهو من أهل "بظه" فقال لي قلبي عن ربي عز وجل، الجزء المفقود من التفسير مع هذا -الرجل- وذلك مع مدخل الرجل باب الفاضلة -غرفة الاستقبال- فحين صافحني قلت له: الجزء الفلاني من تفسير البغوي من نسخة فلان عندك؟ فقال: نعم، وكان صاحب النسخة وجماعة من أهل البلد حاضرين قولي، فتعجبوا، وقام الرجل إلى بيته وجاء بالكتاب، فالحمد لمن أنزل الكتاب، وجعل لكل أجل كتاب، "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} ص180 و181 السفينة ج1.
السعي في إصلاح ذات البين
--------------------------------------------------------------------
استخدم صاحب الترجمة رضي الله عنه وسائل وابتكارات متعددة في مجال إصلاح ذات البين وحقن الدماء وإشاعة الأمن والأمان، والصلح بين القبائل في الوديان العليا من حضرموت. وقد تحولت هذه الوسائل والابتكارات إلى قواعد اجتماعية استخدمها الكثير من المصلحين في حضرموت عامة. واعتمدها العديد من أصحاب ومؤسسي المراكز العلمية والإصلاحية، نذكر منها:
- استخدام الطبل والعلم المرافق له، والطبل هو عبارة عن وعاء مجوف من النحاس يشد عليه جلد من جلود الماعز بعد دبغه، ومعلاق من القماش المتين حيث يضعه أحد مرافقي صاحب الترجمة رضي الله في رقبته ويضرب عليه بعودين لطيفين مصنوعين من جريد النخل، ويكون الضرب على الطبل الذكر الذي يسمى في -الطاسة- في اللهجة المحلية، بنغمة وإيقاع مميز ومعروف في المنطقة عامة، أما العلم فغالبا ما يكون من اللون الأخضر، ومكتوب عليه "لاإله إلا الله محمد رسول الله" ويحمله مرافق آخر من مرافقيه، ويستخدم الطبل والعلم في إعلام قبائل الجهة بوصول أو مرور صاحب الترجمة بمنطقتهم، وبمجرد سماع أي قبيلتين متحاربتين لصوت طبل صاحب الترجمة أو رؤية علمه من بعدن، يوقف عقلاهما من الجانبين القتال بينهما حتى وصول صاحب الترجمة الذي كان لرجاحة عقله المشهورة وخبرته ومعرفته الواسعة بتقاليد وعادات الجهة وحياديته ونزاهته وزهده، وغزارة علمه في علوم الشرع، تقديرا منقطع النظير،بين قبائل تلك المنطقة، فيقوم بأخذ بعض "العدائل" وهي عبارة عن قطعة أو قطعتين من السلاح المستخدم في ذلك العصر من كل قبيلة ويعقد بينهما هدنة ووعد للتقاضي عنده والحكم بينهما بعد سماع ما لدى كل طرف عن أسباب القتال ونتائجه، وهكذا يفعل في تنقله بين الأودية والقبائل والتجمعات السكنية والقرى في أودية الداخل وفي ساحل حضرموت أيضا، حتى أنه ربما أجتمع في يوم الوعد لديه العديد من الأطراف المتحاربة والمتناحرة، سواء أدى ذلك الصراع إلى نشوب قتال أو لم يؤدي إلى ذلك، وربما استغرق التقاضي والمرافعات والمراجعات بينهم في محل أقامته وخصوصا في المشهد بعد تأسيسه أو في حريضة أو الهجرين، شهورا كان المتخاصمين، يقيمون خلالها في بيته أو في البيوت التي رتبها لذلك وعلى نفقته، حتى يصدر حكمه ويذهب من عنده كل طرفين متخاصمين وهم في صلح وسلام ووئام، وكانت أحكامه -بفعل الثقة التي له عند كل الأطراف والقبائل والأسر من كافة الشرائح الاجتماعية- نهائية وغير قابله للنقض أو الاستئناف، لأنه يسبقها بتحكيم شامل له من المتخاصمين. وقد شهدت أنا الفقير إلى الله كاتب هذه السطور، وأنا في سن الصباء صورة من هذه الصور المشرفة في تاريخ صاحب الترجمة رضي الله عنه على يد، أحد أحفاده والقائم في مقامه، الحبيب المنصب أحمد بن حسين بن عمر بن هادون بن هود بن علي بن حسن العطاس، رحمه الله في حدود عام 1373 هجرية وكان سني وقتها ثمان سنوات، وذلك في حريضة في مبنى المدرسة التي أسسها جدي الإمام الداعي الله الحبيب عبد الله بن علوي بن حسن العطاس، بحريضة، والذي كان ذلك المنصب الكريم المصلح المقدام ينزل فيها بمن معه عند قدومه إلى حريضة في فصل الصيف، خلال عطلة طلبة تلك المدرسة، وكنت أرى وفودا من المتخاصمين من قبائل ومناطق مختلفة تفد إليه يوميا إلى تلك المدرسة ويتولى الصلح بينهم، وكانت حركات القادمين وأصواتهم تتعالى في ذلك الحي ووسائل نقلهم تتكاثر خلال وجوده.
ومن أبرز الخصائص والمزايا
--------------------------------------------------------------------
* - الحرص على التوثيق الدقيق والمتواصل
* - ربط القضايا بالأدلة المناسبة من القرآن والسنة وعمل السلف، وهو في هذا المنحى يجمع بين عقل الفيلسوف، وقلب الصوفي العابد، وعزيمة المصلح المجاهد.
* - الإعجاب بالعظمة والعظماء في كل مجال، والتمييز بالأدلة الملموسة بين التحدث بالنعمة والترجمة التعليمية الهادفة وبين التفاخر والمديح وتزكية النفس.
* - الانطلاق من مواقع الدرس والتمحيص والاقتناع في كل ما يتخذه من قرارات وما يبتكره من إبداع ومنجزات، ولو أدى ذلك إلى الخروج على المتواضعات الاجتماعية المترهلة والعادات السائدة في مجتمعه. (تأسيس المشهد)، قل للرياشي.
* - عدم التحرج في وصف المعاناة وفي تصوير حجم الضريبة الفادحة التي يدفعها المتميزون في كل مرحلة من مراحل حياتهم ثمنا لما يؤمنون به وما يدافعون عنه من مثل وقيم.
* - قوة الشخصية التي يلمسها بوضوح قاري شعر الحبيب علي بن حسن ونثره، ويكتشفها بيسر المتتبع لتاريخ حياته
* - حوراه المقنع القوي مع قارئه في كل قضية يطرحها ليبدد قدر الاستطاعة أي شك أو لبس أو سوء فهم قد ينشأ عند قارئه.
* - سعة اطلاعه التي تبرز واضحة في استطراداته الغزيرة عند مروره في مؤلفاته بأي فكرة أو قصة أو حادثة تاريخية أو مسألة فقهية أو أصولية بشكل يجعل قلمه لا يتوقف عند حدود الموضوع محل البحث
* - قدرته على تحمل متاعب الأسفار والتنقل في ظل ظروف معيشية صعبة ووسائل مواصلات بدائية وطرق جبلية وعرة كل ذلك من وحي الإيمان اليقيني بالرسالة السامية التي يؤديها في الدعوة إلى الله وطلب العلم ونشره وفي الاستسقاء وإصلاح ذات البين.
* - القدرة النادرة على التوفيق بين ذلك الحجم الهائل من المهمات الصعبة، المجاهدة والعبادة والذكر والفكر والرياضة، طلب العلم ونشره، تأسيس مدن ومناسبات من بدايتها، إصلاح ذات البين وحل المنازعات بين القبائل، وإبرام العقود والعهود والمواثيق مع القبائل، استقبال الضيوف وإكرامهم، التأليف والكتابة، نظم الشعر وكتابته، حضور المناسبات العامة والمشاركة فيها بفاعلية. تربية الأولاد وإعطاء الحياة الأسرية حقوقها الكاملة.
ضريبة النبوغ وآفات المعاصرة
--------------------------------------------------------------------
إن التفرد والسبق والابتكار وقوة الشخصية ، كانت هي الصفات البارزة في الحبيب علي بن حسن العطاس التي لا تخطئها البصائر السليمة ، ولا تغفل عنها العقول الصافية والطبائع المستقيمة . ولقد جسّدتّها جلائل أعماله ، ونفائس مؤلفاته ، وغرر قصائده ورسائله وكلماته . ورسمها في صورة حية ومعبرة الحبيب علي بن حسين بن عمر العطاس عندما أجاب من قال له " ما أحلى نظم ولدكم علي بن حسن العطاس" بقوله كما ورد في " سفينة البضائع " [ذلك لأنه قول بعد فعل ، عن نجدة وفضل ، لا غزل ولا مدح ولا هجاء ،لأن قصائد تلك الأحوال ما أسهل فيها الأقوال ، وإنما تعسر الأفعال] فقال له السامع ، أضرب لنا فيها مَثَل فقال [ إنه - أي الحبيب علي بن حسن - لما قال رضي الله عنه ونفع به آمين
مشهد عمر قل لباشيبه ثبت مجمعه
ماهت عطيه شفيّه وصل في مقطعه
ضقنا عليها وصرنا بعدها في سعه
والله معنا ولا يقصر من الله معه
ما قال ذلك وأعمل فيه لسانه إلاّ بعد أن أعلى أركانه وبعد أن خاطبه جنانه ، ودوّحَ ميدانه أولا بالسكن بجهة الغيوار الذي هو أحر من طبقات النار ، ومأوى لكل ضار، ودار المغار والغيار، فحوّطَهُ بالقرآن والأذكار ، وبنى الحصون والرباطات والمدارس والزوايا والديار ،بعد أن حفر فيها أبعد الآبار ، وصابر في تشييد قواعده وتمديد موائده وتمهيد فوائده أي اصطبار ، حتى صار مجمع الأخيار ومأوى الأبرار ، وترتبت فيه الوقفة التي لا تماثلها وقفة في جميع الأقطار، فهذا الفعل هو الذي حلّى ذلك القول بحمد ذي العلا والطول ] انتهى كلام الإمام علي بن حسين بن عمر العطاس من السفينة
خـصـوصـيـات مـتـمـيـزة
--------------------------------------------------------------------
من مجمل سيرة صاحب الترجمة وتاريخ حياتها المعروف والموثق تبرز لنا الملاحظ التالية :
أولا: أن سند الأخذ والإجازة والإلباس المباشر يدا بيد من الحبيب الحسين بن عمر العطاس " لم يثبت بالدليل المكتوب والموثّق في كل المراجع والأسانيد التاريخية المتداولة بين أهل العلم وطلابه حتى يومنا هذا لغير صاحب الترجمة الإمام الحبيب علي بن حسن بن عبدالله العطاس من بين كافة أبناء وأحفاد الحبيب الحسين بن عمر العطاس . ومن ثم فإن باب الوصول والاتصال ، إلى الحبيب حسين بن عمر في علوم الشريعة والطريقة للطالبين والراغبين ، ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، ينحصر في صاحب الترجمة دون غيره . وإن كنا لا ننفي احتمال أخذ وإلباس مباشر لبعض من الأبناء والأحفاد ، لكنه يظل مخصوصا بصاحبه لا يتعدى منه إلى غيره من الطالبين والراغبين في غياب الكتابة والشرح والتوثيق .
ثانيا: إن صاحب الترجمة ، يعتبر بغير منازع ، أول من ألّف وكتب المراجع والمختصرات في كثير من العلوم والمعارف ، من أبناء وأحفاد ، الحبيب عقيل العطاس بن سالم بن عبدالله ، حيث لم يسبقه سابق من أسرة آل العطاس في مضمار الكتابة والتأليف على الإطلاق.
ثالثا: إن المرجعية العلمية (الفقهية والتاريخية) ، قد انعقدت لصاحب الترجمة بعد وفاة جده الحبيب الحسين بن عمر بن عبدالرحمن العطاس في حريضة وما حولها دون منازع ، فكان الفقيه المفتي ، والداعية المرشد ، والعلامة المؤرخ ، والشاعر المبدع ، والمصلح الموفق، الذي يشار إليه بالبنان ، بين جميع أقرانه في ذلك الزمان والمكان
فـداحـة الـضـريـبـة
--------------------------------------------------------------------
ولقد كانت ضريبة ذلك النبوغ المبكر وتلك العبقرية الفذة التي أنعم الله بها على صاحب الترجمة رضي الله عنه ، فادحة وكبيرة . حيث أصبح بعد وفاة جده وكافله الحبيب عبد الله بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن العطاس ، غرضا للسهام المسمومة بالحسد والأذى وغمط الفضل والجحود من الأقارب والأباعد، حتى دفع به الجور وظلم ذوي القربى إلى الهجرة من مسقط رأسه حريضة ( أحب بلاد الله إلى قلبه الكبير ) إلى بلد "الهجرين " لأنه كما قال المتنبي:
واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاء تضوى به الأجسام
ولم يكن حاله "في الهجرين" بأسعد من حاله في حريضة . من واقع أن عداوة الجهل المركب للعلم النافع ، وكراهية الجمود والأنانية للنبوغ والوعي والتميز ، تعتبر أمراض خبيثة منتشرة في كل بلاد وموجودة في كل المجتمعات الإنسانية لا تقتصر على مكان دون مكان أو على زمان دون زمان . ولقد عَبّرَ صاحب الترجمة عن هذه الحقيقة الثابتة عندما تعرض في الهجرين لبعض ما تعرض له في حريضة ، أصدق تعبير حين قال :
وفررتُ من بلدي فرارا منهمُ فوجدتُهم خُلِقوا بكلِ بلادِ
ولنستمع لصابح الترجمة يشرح عنها بكلماته الغر وقلمه الذي ينثر الدر بعض ما ناله من البلاء والأذى وما دفعه من ضريبة فادحة للنبوغ والصفاء والعبقرية المتميزة حين قال: {وسأذكر في هذه الترجمة بعض ما حصل لنا من الأذى والعنا ليتأسى ويتعزى من وقع له شيءٌ من ذلك بنا ، كما تعزِّينا وتأسينا بالسلف الصالح من أهلنا قبلنا، مما وقع لهم من ضدادهم ، وقلنا ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل } انتهى من السفينة ص56 السفينة ج1.
ثم اسطرد في وصف دقيق ومفصل لوقائع عديدة مما لقيه من الأذى والعنا في حريضة ، وقال بعد ذلك بالنص :
{ثم اعلم أنّا قد أوذينا بغاية الأذى ، وقد بهتونا بالبهتان العظيم ، حتى أن بعض الناس لما تعادى لنا قال لبعض من يريد أن يغير قلبه علينا ، إن فلاناً يقول إنكم رافضة تبغضون أهل البيت، ولم يعلم قلبه الأبكم أن الرافضة لا يبغضون أهل البيت بل كان سبب تلقيبهم بالرافضة أنهم كانوا من شيعة أهل البيت النبوي ، وقد خرجوا مع زيد بن علي بن الحسين، على هشام بن عبدالملك بن مروان القرشي ، لكنهم لما لم يتبرأ زيد من أبي بكر حين طلبوا منه ذلك في جامع الكوفة مع احتياجه لقتالهم معه وهم خمسة عشر ألفاً رفضوه، ومن يومئذ لُقِّبوا بالرافضة ، فقلت للذي اخبرني ذلك، فتبين له بطلان ما هنالك من بهتان الحاسد الهالك بعون الواحد المالك المعطي بغير حساب ، وسعى بعضهم إلى جماعة من الأقارب وقال لهم إن فلاناً يقول ويشير إليكم ، ما عاد هناك إلاّ تِبِل(1) ، " يعني إني أقول ذلك فيهم ووالله الكريم البر الرحيم ما قلت ذلك . وقال أيضا الحُسّاد وأهل البهتان أشياء غير ذلك ، وتواصل ذلك الأذى علينا والقذى الذي إذا صادف عينا ارمدها. فوالله ما قاسينا من كل طبقة عاصرناها من أهل الزمان من يوم عرفناهم بوصول سِن التمييز ، إلاّ كلماتهم التي تؤذي وتسيء ، غفر الله لنا ولهم الجميع بجاه محمد الشفيع آمين اللهم آمين . وقال لي مرة بعض المناصب، لما شاهد مني ترتيب جماعة في حضرة الذِكر في بيت من البيوت بحضوره ، وكان يرى أنه أولى مني بذلك ، وقد دخلته الغيرة فقال : أنت متعرِّض، فقلت نعم مُتعرِّض لنفحات الله ، وأنت مُعترِض ومُعْرِض عن رسول الله ، أشرت بذلك إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها " الحديث } انتهى من السفينة ص 160 و ص 170 .
وبعد أن شرح حادثة هذا المنصب معه نثرا سجلها شعرا في قصيدته العصماء التالية :
ياعاذلي كف عذلك فليس تطمع بحيله
تنكر علينا بجهلك في الذكر قصدك تزيله
الذكر هو خير مسلك وبه تنال الفضيلة
وتارك الذكر يهلك وليس له من وسيله
رح في سبيلك ودعنا فانك من الخير خال
ولا سمعنا كلامك ولا بعتبك نبالي
يكفيك خيبة مقالك للذكر جافي وقالي
وابليس دلك وزلك وصرت تتبع سبيله
هذه فضيلة وحضره يفرح بها كل ذاكر
فيها وسيله ونظره لكل صابر وشاكر
فيها الهناء والمسره فرح إليها وباكر
واندب لها اصناك واهلك وكل من ترتضي له
واعلم بأن المنافق ما يذكر ألا قليل
افحذر تجيه أو ترافق أو تتخذه خليلا
فان الشقي ما يوافق إلى الهداية سبيلا
له شغل في غير شغلك وله مراعي وبيله
يحب نشر المثالب ويشتهي غيبة الناس
عايب ولع بالمعايب في قرض لعراض كناس
ضاري ضرر غير تائب في حزب وسواس خناس
ولاه نفسه وملك وصار خنسه دليله
يارب ياخير مذكور يارب سلك الحمايه
يارب ياخالق النور منك العطاء والهداية
بحق لحقاف والطور اسمح بجرم الجنايه
بالفضل والفضل فضلك منك الهبات الجزيله
الترويح عن النفس بالشعر
--------------------------------------------------------------------
وكان صاحب الترجمة كثيرا ما يخفف عن نفسه الكريمة بنفث آلامه ومعاناته في شعره الرائع العذب الغزير الذي لا يمل القاري قراءته ولا السامع سماعه ، وقد عبّر عن ذلك رضي الله عنه فقال :
{ إن من جملة ما نقوّي به جاش النفس ونسلّيها ونعزّيها به إذا ورد علينا الأذى الذي هو من المضرات والقذى ، نظم الأبيات والحِكَم المُسلِّيات ، حتى أن الحبيب عمر البار لما سمع قولي المار في أول هذا المضمار ، " وفررت من بلدي فراراَ منهمُ فوجدتهم خُلِقوا بكل بلادِ " قال قولك هذا ينسِّم عليك ، وقد صدق ، فمن جملة ذلك قولي حين رأيت إدبار وانفضاض بعض من حولي مع الدين واللين المأمور به أفاضل النبيين :
بني مغراه قلبي وحل يا أهل المعاني
وصبري من شغوبي كمل والجسم ضاني
وفكري حار في وقتنا وقت الشواني
من اصحبته وبالغت في وده جفاني
ومن شنفت له كاس حلوا صرف هاني
جنا لي في الجزاء من حدج خس المجاني
ومن شيدت حصنه بيدي واللسانِ
هدم ما قد تقدم برجله من مباني
زمان العق فيه انبذل البر فاني
ولا تسهن كفى خير من رجل أو غواني
ولو عديت ذي باعدوا بعد التداني
وعادوا بعد ما دارسوني في المثاني
وطلبوا عندي العلم واستسقوا دناني
حسبت آلاف رجعوا لحُسّادي عواني
ولكن حسبي الله وتدبيره كفاني
إليه أرجع ومنه الفزع والكل فاني
وصلى الله على المصطفى طه اليماني
محمد جدي الهاشمي قرشي كناني
عليه الله صلى عدد ما سب شان
ومن أنوار الوعي الصادقوالرؤيا الصالحة، يأتي لصاحب الترجمة في يقظته ومنامه ، الرد القوي على الحاسد والباغي والخائن . قال عفا الله عنه في المقصد :
ولقد كنت مرة نائماً في بيتي بالمشهد فرأيت في النوم كأني في جامع بلد حريضه وفيه جمع كثير وجم غفير من السادات وأهل الفضل وجماعة من المنسوبين إلي وكأني اعرض عليهم قصيدة لي من جملتها البيتين اللذين جعلتهما أول هذه الأبيات ولم احفظ منها بعد الانتباه إلا هما . ثم انتبهت في الحال وأمليتها بتمام ما تلاها وذلك في نحو باقي الثلث الليل ليلة الخميس خامس صفر سنة 1167 هجري. وهي هذه :
قسما لأنهى عن منامي مقلتي
حتى تُوسّدَ في التراب عظامي
وأقوم في نفع البرية دائما
لله والإسلام أيُ مقامِ
بالسعي فيما يستحق أمانهم
من خوفهم والسُقي والإطعامِ
متطلعا أبداً إلى الرُتب العُلا
قدماً بأقدامٍ إلى إقدامِ
بالمال والحال المكين وبالدعاء
لا انثني عن شأوها لملامِ
بخميسها وخميسها فخميسها
كم في الملأ من ضيغمٍ ضرغام
آل الرسول السادة الغُر الأوْلى
سبقوا إلى العليا جميعَ أنامِ
وبعزم أهل العزم من نوحٍ إلى
موسى وعيسى بعد إبراهامِ
ولما بداهم راحماً بسلام
فيهم واطفى حرَّ كُلَّ ضِرامِ
واختصهم رب البرية بالولاء
قوٌم أقام الله ُ أركان العُلا
فالحمد لله الذي جعل النبي
طه أبي ووسيلتي وإمامي
والحمد لله الذي اهدي لنا
من فضله من أوفر الأقسام
والحمد لله الكريم بحمده
حمداً يفوق الحمد بالإتمام
يا رب وفقنا لشكرك دائما
عفلا وقولا إن جودك طامي
واجعل صلاتك والسلام على الذي
فضلته في المبتدأ وختام
وقد أعطى صاحب الترجمة نموذجا عن ما لقيه من سخرية واستهزاء جحود وتشكيك من بعض الأشقياء، في رحلاته للاستسقاء والتوجه إلى الله بالصالحين في نزول الغيث المغيث بعد عودته من ألو رحلة قام بها لهذا الغرض عام 1152هـ بعد هجرته إلى بلد الهجرين، فقال: { بلغني أن بعض الحساد قال وأنا بدوعن في تلك الزيارة قبل أن ارجع إليها -أي إلى الهجرين- "كرامة يوم راح السيد -أي صاحب الترجمة- من البلاد وقعت الرحمة لنا". كما قال فرعون لموسى ( اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) [النمل: 47] فانظر رحمك الله إلى هذا الجفاء العظيم، واللؤم والعقوق، من هذا الآثم اللئيم، نحن في خبب وجهد واجتهاد بالدعاء والتوسل وترتيب قراءة الفاتحة للأنبياء والأولياء في جميع النواحي، صلوات الله عليهم، على الجمع والتعديد حتى من الله الكريم بالإجابة، وهؤلاء يقولون ما قالوا} ص142و143 السفينة ج1. ثم استطرد بعد ذلك مستشهدا بآيات من الذكر الحكيم { قال تعالى: ( فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) [يس: 76] وقال عز من قائل كريم قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33] وقال تعالى وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ** إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) [النحل: 127 - 128] وقال تعالى: ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا** وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) [المزمل: 10 - 11] } ص 143و144 السفينة ج1.
وأي تعبير إنساني صادق في كلام عذب عن وصف المعاناة بعقلية الحكيم الفيلسوف أصدق وأعذب من هذا التعبير الشعري أو على الأصح من هذا العبير الشذي الذي نشرته مشاعر صاحب الترجمة المرهفة وأحاسيسه الشاعرة حين قال:
تعجبت يا ناس حد العجب
من الكون ذي بالعجائب ملان
كثير المكاره قليل الطرب
كثير المساوي قليل الحسان
إذا ما طلع ذا علي ذا غرب
ومهما بعد ذا ترى ذاك دان
بتقدير من قد على واحتجب
وقدر ودبر وما شاء كان
وساعات بالعسر تأتي الكرب
وساعات باليسر يأتي الأمان
جعل فتنة البعض من بعض صب
ليعلم بها صبرنا يا فلان
وكم من صديق عدو انقلب
وكم من عدو قسا ثم لان
فجل في تصاريف حال العرب
وفند وسلم تهون الحزان
ولا تجعل إن حد لنفسه وهب
ولا فادها من قضى الله كنان
وما راته عينك من الله وجب
من الزين والشبن في كل شان
خلق لك شواني وفيهم كلب
يريدون ضرك على كل آن
يودون لو كنت وسط اللهب
ويرضون لو تندرج في الدمان
وسوّا محبين فيهم حدب
وفيهم لك المعرفة والحنان
يعدون لقياك كل الطلب
وتمناتهم وانسهم دوب حان
ترى في عدوك ومن كان حب
مشابه جهنم وشبه الجنان
وشانيك يشنا ولا له سبب
فسبحان خالق محبا وشان
وقوم يقولون فيك العتب
وقوم يقولون قطب الزمان
وقوم أذاهم عليك انتصب
وقوم تعينك إذا الخل عان
هدايا المعادي ذلوق الحرب
ونشر المساوي ودفن الزيان
ومن حب وآلا ومالا وطب
وبدا بماله وبالحال مان
ولو كان يقدر قريب النسب
يوالي قريبه رضي واستكان
ولكن إذا الله عليهم غلب
غدوا يطعنونك بحد اللسان
يودون من غيظهم والغضب
عدمك أو مسيرك إلى اقصى مكان
بلا جرم قد كان منك أو طلب
عليهم بيدك ولا باللسان
فسلم لمولاك فيما كتب
وصن منك الناس حتى تصان
وقل حسبي الله مولا ورب
عليه توكلت ما ثم ثان
ومنه الرهب وإليه الرغب
هو الحي قيوم والكل فان
وصلى إلهي على المنتخب
محمد رفيع الثناء والمثان
وآله ومن في حياته صحب
ومن دينه الحق بالحق دان
الغاية من ذكرنا لمعاناة صاحب الترجمة
--------------------------------------------------------------------
ونحن عند ما نسهب في النقل عن صاحب الترجمة رضي الله عنه في هذا المضمار ونحرص على رصد وتسجيل هذه الظاهرة السلبية في المجتمعات الإنسانية عموما من خلال تقديم الأمثلة تلو الأمثلة من كلامه رضي الله عنه، إنما نسير مع صاحب الترجمة في نفس الاتجاه الذي أشار إليه رضي الله عنه، ونهدف إلى تأكيد الحقائق التاريخية المؤسسة على الاستقراء والمشاهدة والأمثلة الحية والتي يمكن أجمالها على النحو التالي:
إن الصراع بين الخير والشر وبين العلم والجهل وبين الظلم والعدل ملحمة أبدية منذ خلق الله الأرض ومن عليها،وإن نتيجة هذا الصراع في نهاية المطاف تكون لصالح الخير والعلم والعدل، مهما ظهر تفوق وغلبة الشر والجهل والظلم في بعض المراحل التاريخية، لأن الله جلت قدرته يكون أبدا في جانب الخير والعلم والعدل. والنصر دون ريب يكون حليف من كان الله في جانبه بالرضا والعون والهداية.
إن السعي في ترسيخ قواعد الخير ونشر العلم واقتلاع جذور الظلم مهمة شاقة شاقة، ومرتقى صعب صعب، محفوف بالمخاطر لا يصبر على صعود درجاته حتى النهاية غير الذي حباهم الله بقدرات ومزايا متميزة وخاصة مثل صاحب الترجمة رضي الله عنه. لأن العبقري العالم الصالح المصلح، يجد نفسه في بداية أمره دائما يسبح عكس اتجاه التيار العام في عصره حيث تتحرك في ذلك التيار قوى البغي والضلال والجبروت والأنفس الوصولية الرخيصة، ومن ثم فإن هذه القوى تعمل بلا كلل وبكل عنف وقسوة على إغراق السابح عكس اتجاهها في قاع بحر مظلم تلتف به فيه وتهاجمه بفسوة من كل صوب وتحيط به إحاطة السوار بالمعصم، تماسيح متوحشة ضارية تعمل فيه نهشا وتقطيعا دون هوادة أو رحمة. ورحم الله أبا الطيب المتنبي حين قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
تتحدد في خضم الأذى والبلاء قدرة العبقري العالم الصالح المصلح ويقينه بربه ومدى اقتناعه بقضيته التي يعمل من أجلها ويتحمل في سبيلها كل الرزايا والبلايا، فعلى قدر هذا اليقين والاقتناع يكون الصبر والعزم والثبات، والنظر من علو الإيمان واليقين والصبر، إلى تلك السهام المتجهة صوبه مهما كانت حدتها وقوتها وشدتها، وفي هذا السياق لعل مثلا واحدا من أعظم الأمثلة التي جادت بها الإنسانية في أوج عظمتها تغنينا عن الكثير غيره. وهو موقف حفيدة محمد، وبنت الليث الغالب الإمام علي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء الطاهرة البتول ، عقيلة الطالبين،السيدة زينب بنت الإمام علي رضي الله عنهم وأرضاهم ،رجالا ونساء أجمعين، حين وقفت عند رأس أخيها مفخرة الشهداء وسيد شباب أهل الجنة وريحانة جده المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، بعد استشهاده، في كربلاء، في مجلس يزيد بن معاوية، يوم زهوه ووهمه بالنصر واستتباب الأمر، بل قل يوم زهو الشر والحقد والظلم، حين كان يزيد يعبث بثنايا الحسين بقضيب في يده، ويتمثل بأبيات عبد الله بن الزبعري، شاعر قريش يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا
ثم قالوا يا "يزيد" لا تشل
فردت أم هاشم، السيدة زينب، رضي الله عنها وأرضاها على ذلك الظالم المظلم قائلة:{صدق الله يا يزيد ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) [الروم: 10]، أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا هوانا على الله وأن بك عليه كرامة، وتوهمت أن هذا لعظيم خطرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفيك، جذلان فرحا، حين رأيت الدنيا مستوثقة لك، والأمور متسقة عليك؟ إن الله إن أمهلك فهو القائل ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [آل عمران: 178] ثم ختمت ردها المفحم الجامع العظيم على يزيد، بعد عبارات اليقين بالنصر الذي كتبه الله للخير والعدل، تلك العبارات التي هي كعبارات أبيها سيد البلغاء ، روعة وقوة وبيان، فقالت: "وستعلم أنت ومن بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين، إذا كان الحكم ربنا، والخصم جدنا،( مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ) [مريم: 75] فلئن اتخذتنا في هذه الحياة مغنما، لتجدننا عليك مغرما، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك، وتتعاوى واتباعك عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد تزودت به، قتل ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فوالله إنني ما اتقيت غير الله، وما شكوت إلا لله، فكد كيدك، وناصب جهدك، فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبدا.
إن الأذى والحسد والكيد الذي يلقاه العبقري العالم الصالح المصلح، يظل في تناسب طردي مع تقدمه في مدارج العلم والعبقرية والصلاح والإصلاح، فكلما زاده الله علما ونبوغا وتميزا وتوفيقا في الصلاح والإصلاح، ازدادت عليه هجمات الحاقدين والحاسدين والمؤذين شدة وقسوة.
بالاستقراء والملاحظة نجد أن العبقري العالم الصالح المصلح، أول ما يصطدم في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، بالقوى الجامدة المترهلة، التي تجد في الجهل والتخلف والجبروت والفتنة،والدفاع عن بقاء الفقر والمرض والذل واستطالة مدته، أقوى الأسلحة والوسائل في السيطرة المطلقة على المجتمع ومقدراته و نهب خيراته وثرواته، وسهولة استعباد وإذلال عناصره وأفراده، والمؤلم في ذلك الاستقراء وتلك الملاحظة، أنه حتى المستعبدين المنهوبين من عامة أفراد المجتمع المنكوبين بالجهل والتخلف والفقر ربما شارك بعضهم، أو أغلبهم أحيانا، مستعبديهم من رموز تلك القوى الجامدة المترهلة ، في تأجيج الأذى والريبة والكيد للعبقري العالم الصالح المصلح، أما بسبب إدمان الذل والخنوع والاستخذاء أو لسهولة تضليلهم ومغالطتهم من قبل تلك القوى، أو لنفورهم وخوفهم من التغيير وتبعاته وتضحياته وضريبته، وإن كان إلى الأفضل. أو لقدرة أبواق القوى وتنابلتها على اختلاق الأدلة والحجج الواهية من عقيدة ذلك المجتمع في تحريم الخروج على الصور الممسوخة أو نقدها وأن كانت تجلس على مقاعد من ظلم وجهل وفساد ومعصية.
إن الأذى والبلاء والرزايا التي يتعرض لها العبقري العالم الصالح المصلح، هي أشبه بالنار الملتهبة التي تصطلي بها المعادن النفيسة، كالذهب والفضة، فتزول عنها بتلك النار الشوائب، ويتم صقلها وتهذيبها وحسن تشكيلها، ويظهر صفاءها وبريقها وأصالة جوهرها، وتعلو قيمتها وتقييمها، فنرى أن العبقري العالم الصلح المصلح كلما اشتد عليه أوار الأذى والبلاء، كلما زاده الله صلابة وقوة وصبرا، وكلما تفنن خصومه وحاسديه في ابتكار أساليب التشويه والتجريح والمغالطات من حوله، كلما ذاع صيته ونفع الله به وأمتد تأثيره على نطاق أوسع من دائرته ومجتمعه في حياته وبعد مماته.
تتحول في العادة كل البلايا والمغالطات والحسد والتجريح الذي يتعرض له العبقري العالم الصالح المصلح، هي وأسماء وتواريخ مرتكبيها، مع مرور الأيام وتعاقب السنون وتوالي الأجيال إلى زبد يذهب جفاء، ودخان ملوث يخبو ويتلاشى ثم يزول، بينما تبقى أثار ذلك العبقري العالم الصالح المصلح ومؤلفاته وأعماله ينابيع خير وبركة وسعادة لمجتمعه خاصة ولبني الإنسان عامه، وفروع علم وإرشاد في شجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها، ونبت تقدم ونمو وازدهار حضاري يمكث في الأرض لينفع الله به الناس جيلا بعد جيل.
وفي ختام هذة الترجمة اسأل الله العلي القدير أن يجعلنا ومن نحب في ركب هذا الإمام وجدة المختار الهمام وآلة البرره الكرام إنه على كل شي قدير
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
والعفو على التطويل، كتبه على العطاس في منتدى غريب
منقول من كتاب العبقري المجدد للسيد : مصطفى عبدالرحمن العطاس وللكلام بقيه
منقول من كتاب العبقري المجدد للسيد :مصطفى عبدالرحمن العطاس
-----------------------------------------------------------------------------------------------
ترجمة مختصرة / السيد العلامة ابي الحسن على بن حسن العطاس العلوي -- رحمه الله (مؤسس المشهد )
نبذه مختصره عن الامام الحبيب على بن حسن العطاس ,, مؤسس مدينه المشهد واول من سكن فيها وجعلها آمنة بفضل الله ,بعد ان كانت منطقه تسمى الغيوار يكمن فيها اللصوص وقطاعين الطريق فيخيفون العابرين ويقطعون السبيل ويأتون في ذلك المكان المنكرات ,,فجعلها الله منطقه آمنة على يدي الحبيب الشجاع علي بن حسن العطاس بعد ان مده الله بالكرامه واخرج منها اللصوص اثر كرامات اظهرها الله على يديه ,وسكن فيها وأنشاْ بيته ثم مسجده ثم بدا الناس يسكنون بجوارهـ بعد ان اصبحت المنطقه آمنة واصبح الناس يزورنه في تلك المنطقه ويأتون اليه من كافه المناطق تقديراً واحتراماً له وخاصه في ال12 عشر من ربيع الاول ,,لاحياءهـ لذكرمولد النبي الكريم صلى الله عليه واله وسلمومازلت المشهد وبيوت احفاده من بعده مفتوحه للضيوف وعابرين السبيل و لاغاثه اللهفان واطعام الجوعان وحل النزاعات التي تحدث بين قبائل المناطق
علي بن حسن حوط الغيوار وأمسى مزار
وامسيـت يالجحـي جــنه بعـدما كـنت نار
نسبه
هو الحبيب علي بن حسن بن عبدالله بن حسين بن الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس
بن عقيل بن سالم بن عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن السقاف
ابن محمد مولى الدويلة بن علي بن علوي بن الفقيه المقدم محمد بن علي
ابن محمد"صاحب مرباط" بن علي "خالع قسم" بن علوي بن محمد "صاحب الصومعة"
ابن علوي "صاحب سمل" بن عبيدالله بن المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى
ابن محمد النقيب بن علي العريضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين
ابن الإمام السبط الحسين بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه"
مولده
ولد رضي الله عنه ببلد حريضة ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الثاني سنة 1121هـ .
تربّى وتهذّب بجده الحبيب عبدالله بن حسين بن عمر وبجده الحبيب حسين بن عمر بن عبدالرحمن. ثم جدّ لطلب العلم على أشياخه الكرام. منهم الحبيب حسين بن عمر والحبيب عبدالله بن حسين والحبيب أحمد بن حسين . ثم أخذ عن أشياخ كثيرين في دوعن وتريم وغيرها من البلدان الحضرمية . ومنهم الحبيب الإمام أحمد بن زين الحبشي والحبيب عمر بن عبدالرحمن البار وغيرهم
حسب ماهو مشروح ومبين في قصيدته وسلسلة مشائخه التي مطلعها:
سمع سائلي عن سلك إسناد سادتي
وقد كرّس حياته رضي الله عنه في الدعوة إلى الله ونشر الدين في الوديان الحضرمية وعند البادية
وتأليف العديد من الكتب المفيدة منها
1_ كتاب القرطاس : جزئين
الجزء الأول: في تاريخ وترجمة جده الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس . مخطوط
والجزء الثاني : في شرح راتب جده الحبيب عمر المذكور جزئين أيضا. مطبوع
2_ ديوان الشعر المسمى: قلائد الحسان وفرائد اللسان . مخطوط
3_سفينة البضائع وضمينة الضوائع : جزئين . مخطوط
الجزء الأول: ترجم لنفسه وذكر فيه رجلاته وتنقلاته.
الجزء الثاني : يشتمل على علوم متفرقة في شتى المجالات.
4_ المقصد في شواهد المشهد : سجّل فيه الانطباعات والحوادث التي صادفها إبّان تأسيس وعمارة المشهد.
5_ الرياض المؤنقة في الألفاظ المتفرقة: فيه تعرض لحدود حضرموت الجغرافية كما تناول نفسيات بعض الحضارم ووصف أحوالهم بصورة لا تخلو من صراحة . مخطوط
6_ العطية الهنية والوصيو المرضية: وضح فيها الطريقة العلوية المستمدة من الكتاب والسنة. مطبوع
7_ خلاصة المغنم في الاسم الأعظم: مطبوع.
8_ مزاج التسنيم في حكم لقمان الحكيم: مطبوع.
9_ شرح مقامات الحريري: مخطوط .
10_ سلوة المحزون وعزوة الممحون: مخطوط .
11_ الرسائل المرسلة والوسائل الموصلة: مخطوط .
12_ كتاب الشوارد والشواهد. حمع فيه من شواهد العرب وحكمائها وما ذكروه حكماء الفرس واليونان والهند : مخطوط .
13_ كتاب الإشارة الذكية إلى بعض ألفاظ الوصية: مخطوط .
توفي رضي الله عنه بالمشهد سنة 1172هـ رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه الجنة دار القرار
ونفعنا الله بعلومه ولا حرمنا بركته... آمين آمين
-----------------------------------------------------------------------------------------------
نقف في هذه الحلقات عن الشعر و الشعراء في حضرموت مع شعر وعالم كبير ومصلح اجتماعي ذاع صيته حيا وميتا في أودية حضرموت ، فيسهولها وجبالها ، وديانها وصحاريها ، أنها شخصية السيد العلامة علي بن حسن العطاس (( صاحب المشهد )). وظف علمه من أجل السلم الاجتماعي والدعوة الى الله ، ووظف شعره من أجل اشاعة الحب والخير والفضائل ومحاربة الفساد .
المكان : حريضة
الزمان : في ليلة الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1121هـ .
الحدث : ميلاد العالم والداعية والمصلح الاجتماعي المعروف السيد علي بن حسن بن عبدالله العطاس (( صاحب المشهد ))
توفى والده ولم يبلغ السن الثلاثة اعوام ، فكفله جده السيد عبدالله بن حسين العطاس ، وتعلم القرآن الكريم وحفظه على يد (( المعلم سالم بن علي باعنتر )) ثم تلقى تعليمه الديني على يد جده السيد حسين بن عمر ، وظهر منذ صغره قدرة على الحفظ والاستيعاب وسرعة الادراك، ثم تنقل في الجهات الحضرمية يطلب العلم من شيوخ عصره .
وكان رحمه الله صافي الاعتقاد يلتمس في كل من يرى عليه سيمة الخير والصلاح من سيد شريف او معدم فقير صغير او كبير يطلب منه الدعاء ويسمع عنده القرآن ، ولذا كرس حياته في الدعوة الى الله ونشر الدين في الوديان النائية بحضرموت خاصة عند البادية ، وسعى الى نشر السلم ، وقد لاقى من الأذى والمضايقات كثيرا من اهل بلدته (( حريضة )) شأنه شأن غيره من المصلحين العظماء، فقرر الهجرة الى الهجرين في سنة 1150هـ .
بالقرب من الهجرين تقع مفازة تسمى الغيوار على اطرافها (( خرائب ريبون )) وكانت هذه المنطقة المجذبة مأوى للصوص وقطاع الطريق ، وكانت قوافل الجمال المتجهة من والى وادي دوعن كثيرا ما تتعرض لهجوم اللصوص فتأذى الناس كثيرا من هذه المنطقة ، وتعرضت ارواحهم وممتلكاتهم للخطر .
في وسط محيط اجتماعي تسوده الفوضى، ويفتقد الى وجود بنية دولة قوية تبسط نفوذها، وتشيع السلم الاجتماعي بين الناس، وتنشر العلم والاصلاح وتقيم حدود الله وتحكم بين الناس بالعدل . يتحرك المصلحون والعلماء الصادقون الذين تقع على اعناقهم مسؤولية انقاد الأمة ، فالعلماء ورثة الأنبياء، لهذا لا عجب ان يغامر السيد علي بن حسن العطاس في ان يختط في تلك المنطقة المجذبة والتي تعد مأى اللصوص والقتلة من قطاع الطرق لاعجب ان يختط له عريشا يقيم فيه ويبني مسجدا ويحفر بئرا، ثم يقرر أن ينقل أهل بيته ويسكن في ذلك المكان الموحش المقفر، ويسميه (( المشهد )) ويحوله الى حوطة آمنة وملاذ للمنقطعين .
كان ابتداء تأسيس عمارة المشهد في سنة 1159هـ ، وبعد ان أرسى السيد علي بن حسن العطاس تاسيس المشهد ، سعى الى عقد هدنة شاملة بين جميع قبائل حضرموت المتنازعة ، وضم غيرها من القبائل المجاورة وحدد لها هدنة في العام شهرا واحدا يصادف شهر ربيع الأول ، وهو شهر له مكانته الخاصة عند المسلمين ففيه شهدت البشرية ميلاد الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعلن أن الهدنة تتجدد بشكل دوري في كل سنة واخذ العهود والمواثيق من جميع القبائل ، ودعاها ان تحترم هذا الشهر ويبقى (( حرم )) . وقد أوفت له جميع القبائل العهود والمواثيق وتحول المشهد في ذكرى مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الى مزار كبير تقام فيه الدروس والمواعظ الدينية وقراءة القرآن والأدعية ، وفي ليلة الخامسة عشر من نفس الشهر يتم قراءة المولد وتقام فيه سوقا كبيرا تفد اليه جميع تجار حضرموت للبيع والشراء ، وتشهد ساحاته الزوامل والمساجلات واصبحت هذه الزيارة عادة سنوية تقام بالمشهد الى يومنا هذا ..!!
وقد وصف السيد علي بن حسن العطاس مشروعه الاجتماعي الاصلاحي (( تأسيس المشهد وزيارة المشهد )) في كتابه المخطوط (( المقصد في شواهد المشهد )) ووصف ايضا في كثير من قصائده واشعاره تأسيس المشهد وحفر البئر (( عطية )) والزيارة وما لها من أثر ديني واجتماعي واقتصادي ايجابي على الناس في حضرموت منها في قوله :
علي بن حسن حوّط الغيوار وامسى مزار
صـيــح بـقـومـه وبيـنـهـا كـرامــه جــهــار
قصدوه الأخيار والقوا فـي عروضـه ديـار
ســاده ودولــه وفـقـراء والقـبـل والتـجـار
وســوق فـيـه البضـائـع واجـــده بالـبـهـار
فـيـه الـتـلاوه ودرس العـلـم دائـــم سـبــار
وحضـرة الذكـر فـي زهـو الجمـوع الكبـار
والشرح ذي يشرح الخاطر بقصبـه وطـار
والظـاهـري والدحيـفـه والـبـرع والـمـدار
والخلـق فـي صـفـو دائــم ليلـهـم والنـهـار
صورة جميلة ورائعة اختزلت مشروع اجتماعي اصلاحي عظيم . تلخص اهدافه في النقاط التالية :
1- تأسيس نواة حوطة آمنة.
2- تأسيس نواة بلدة مأوى للأخيار.
3- تأسيس مشروع اقتصادي تمثل في سوق سنوي كبير تفد إليه التجار من كل حدب وصوب .
4- تأسيس مشروع علمي تتلى فيه آيات الذكر وتقام فيه المواعظ والدروس الدينية.
5- تأسيس مشروع ((الحفاظ على التراث الشعبي )) ويتمثل في الترويح على النفس بإقامة رقصات الدحيفة والظاهري وغيرها من الزوامل والمساجلات .
تلك المشاريع الاصلاحية التي تبناها السيد والعلامة والمصلح الاجتماعي علي بن حسن العطاس ، كانت تحدي كبير بينه وبين الواقع المرير والذي يمثله الغيوار حيث يتربص أهل ((المغار )) والسلب والنهب ، حيث كان ترتجف القلوب فيه من شدة الخوف ، حيث للمكان وحشة ورهبة ، وللقتلة والصعاليك المتقطعين من اللصوص الذين يتعرضون للناس والقوافل مأوى يتخذونه لهم.
هنا تتجلى عظمة مشروع السيد علي بن حسن العطاس ولو لم يكن للسادة آل باعلوي سوى ((تأسيس المشهد )) في حضرموت لكفاهم ....!!
ولو لم يكن في السادة آل باعلوي عالما ومصلحا اجتماعيا سوى السيد علي بن حسن العطاس لكفاهم فخرا في تاريخ حضرموت .
قال البريفسور (( روبرت سريجنت )) في ترجمة مختصرة عن حياة السيد علي بن حسن العطاس في كتابه (( نثر وشعر من حضرموت )).
(( ولد هذا العالم الشهير والمصلح الديني في حريضه عام 1121هجريه (1709م) وكان معروفا بكثرة الترحال والتجول في مناطق حضرموت مصاحبا معه حمولة من الكتب ، وفي عام 1161من الهجرة(1748م) أستقر به المقام في (المشهد) وبنى له بيتا وحفر بئرا وتحيط بالمنطقة أرض قاحلة ،حيث أن المنطقة تخلو من الزراعة تماما وتأتيها المزروعات من أماكن بعيدة ، وتحيط بها خرائب ( ريبون ) ، توفى السيد علي عام 1172 للهجرة(1758م) وضريحه موجود بالمشهد حيث أصبح مزارا وتقام زيارة المشهد في الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام وهو تاريخ ليوم هام في حضرموت .
ويمتاز ديوان شعره بالطابع الديني ،الا أنه لا يخلو من قصائد حمينية جيدة وخصوصا تلك التي نظمها في عناد حماره، وهذا يدل أن الزعماء الحضارمـة لايفتقرون الى النكتـه والدعابـة الموفقــة ،وحماره هذا المعروف باسم (عيران) ولا زال أسمه مذكورا رغم مرور هذه السنين الطويلة ، فمن عناد هذا الحمار له أنه يسقط على الأرض فجأة ويرفض استئناف السير بعد ذلك بالشكل المطلوب .
والسيد علي داعية إسلامي نشط بين البدو في المناطق البعيدة المترامية حيث يعتبر الأيمان والعقيدة شيئا غامض المعالم ، وهو صاحب عدّة أعمال أدبية منشورة ..)).
جاءت تعاليم الدين الاسلامي لتتمم مكارم الأخلاق ، والدعوة الى الفضائل ، ولا تخلو قصائد السيد علي بن حسن من الدعوة الى الاصلاح والعدل الاجتماعي والفضيلة ومكارم الاخلاق ، و من مخطوطة ديوان السيد علي بن حسن العطاس (( قلائد الحسان وفرائد اللسان )) نختار لكم مجموعة من قصائده وربما ارافقنا ملفا صوتيا لبعض القصائد بصوت السيد محسن بن سالم بن محمدالعطاس ( رحمه الله ) .
من قصائد الديوان نستفتح بهذه القصيدة الجميلة التي تمتزج فيها المواعظ والحكم والنظرة الفلسفية العميقة في تشخيص طبائع وسلوك بعض ابناء عصره .
شكرا لشاعرنا عبدالله الجعيدي على المرور والاضافات ، الاهتمام بتاريخ وسيرة وشعر وتراث السيد علي بن حسن العطاس مسؤولية مشتركة من الجميع ، ولكن مهما حاولنا نكتب عن هذا الشاعر والمصلح الاجتماعي الكبير ربما لن نستوفي تاريخه واعماله حقها ، ولكن لابد من وقفات تعريفية واستقراء تراث هؤلاء الرجال من مجاهل الذاكرة الحضرمية ، وابراز صور الخير والجمال والاصلاح والفضائل فيهم ، واقتباس نور الأمل من سيرتهم وحياتهم وعلمهم ومن تراثهم الإيجابي .
للشاعر علي بن حسن العطاس ديوان اسمه (( قلائد الحسان وفرائد اللسان )) وهو مخطوط ونظمه بالشعر الحميني ، وله ديوان بالشعر الفصيح .
وله مؤلفات جميعها لازالت مخطوطة اهتم فيها بالتاريخ والقضايا الاجتماعية والطب والفلك ، والعلوم الدينية .
بخصوص ملاحظتك في (( النقل قد يكون غير موفق في بعض الابيات التي وردت سابقا حيث تكاد ان تكون غير موزونة )) لقد نقلت الأبيات من مخطوطة الديوان كما هي . ايضا ارفقت لكم ملفا صوتيا للقصيدة بإلقاء السيد (( محسن العطاس )) .
وربما لو تتبعت القاء السيد محسن في الحلقات القادمة مع ما نقلته ربما وجدت في اختلافات بسيطة لاتذكر ، واختلالات البسيطة هي من ناسخي الديوان . ولكن عذوبة شعر السيد علي بن حسن لاتكمن في ميزانه ، وانما في آراءه الجرئية وفلسفته وحكمه ، وبلاغته وثراءه اللغوي
شكرا على المرور ونسعى دائما على تميز سقيفة الشبامي وجعلها ذاكرة حضرمية تعني بتراثنا وليس حصرها ضمن (( زوامل مكررة ومساجلات مملة )) ...!!
عانى الشعر الشعبي في حضرموت بصفة عامة من الإهمال والتهميش من أبناء حضرموت ، وعانى شعر السيد علي بن حسن العطاس من الإهمال والتهميش من بني قومه ومن الدارسين للأدب الشعبي في حضرموت ، وربما لم ينل حظه من الدراسة والاهتمام لسببين هما :
الأول : أن ديوانه لايزال مخطوطا ومحدود الانتشار.
الثاني : موقع (( المشهد )) الجغرافي والمنعزل، وطبيعة أحوال الناس في تلك النواحي (( غرب حضرموت )) من عزلة عن التراث ، وجهلهم به، حتى وصل الأمر حدا أن اضاع الكثيرين كتب التراث. وأكلته معظمه الإرضة ، غير أن ذلك لا يعفي الأجيال اللاحقة من أبناء حضرموت التقصير أمام تراث أسلافهم.
لهذا أرى أن الواجب يحتم على العلويين المهتمين منهم بدراسة تراث اسلافهم أن يقدمون الجوانب الخيرة والايجابية في هذا التراث ، وان تجشموا عناء محاولة البحث المضنيً الوقت والجهد، فإن الحفاظ على تراث اسلافهم مسؤلية تقع على عواتقهم .
للباحث في شعر السيد علي بن حسن العطاس لا بد من تحليل النصوص الشعرية بمنهجية ، والمنهج المناسب تقرره طبيعة النص والاستفادة من بنا النصوص المختلفة سوى كانت صرفية، أو صوتية، أو دلالية، أومعجمية ، كما أن دراسة قصائده الشعرية دراسة تحليلية متكاملة دقيقة تطل بنا على نفسية هذا العالم والشاعر ، وتطل بنا على محيطه الاجتماعي و الإنساني، ويجعلنا ندرس خطوات إضافية لدراسة التاريخ الإجتماعي في حضرموت والعصر الذي عاش فيه شاعرنا العلامة علي بن حسن العطاس .
يتميز شعر السيد علي بن حسن العطاس بقوة الصورة ، إذ أن خيال شاعرنا العلامة تنطلق من ذات خصبة الشاعرية ، وهي ركيزة شاعريته المتألقة ، وبها تميز شعره ، وتنوعت الصور فيه ودقة الخيال وتدفق صدق الأحاسيس . وعلى منوال النمط الوصفي من الصور وتوظيفها تأتي المواعظ والحكم والزهد والأغراض الأخرى في شعره ، ومن تلك القصائد الجميلة التي تأتي فيها صورا رائعة تخلب اللب وتستهوي الفؤاد هذه القصيدة . يقول فيها :
ياطالـب الـوعـظ مـنـي فــي ملـيـح المـقـال
انـصـت لقـولـي وخــذ مـنـي نصـايـح تـقـال
أوّل كـلامـي وبــدوى الأمـــر فـيـمـا يـقــال
ياصاح شـف كـل مـن خلّـط خلاصـه محـال
وكـــل مـــن لاتـفـكـر مـــا بــلــغ مـايـســال
وكـــل مـــن لايـجـاهـد مــــا تـغـنــم ونــــال
وكـل مـن لامـنـع نفـسـه رجــع فــي نـكـال
مـن لايطالـع فـي الجـوده سبـقـوه الـرجـال
وكـل مـن فتـح فــي الفتـنـه قتـلـه الـحـوال
ومــر عـمـره يـصــارع مـــا تـهـنـا حـــلال
وتالـيـة الأمــر يمـسـي هــو وربـعـه قـتـال
يـقـل جـاهـه ويـرجـع فــي عـنـا وافـتـشـال
لـو جـاء يبـا الفخـر بعـد البعوثـة مـا يـقـال
ومــن تـعـاط الفسـالـه قــل بـــه الاحـتـفـال
ماعـاد لـه شــان مــا يـرجـا قبـولـه بـحـال
ولـــو تـنـسـب بـجــده مـــا نـفـعـه الـمـقــال
إن المـروات فـي الانسـان حـسـن الفـعـال
والبـعـد مــن ذي تعـاطـاه الـوغـود الـنــذال
مــن كــان لــه دور فــي حـمـيـد الـخـصـال
مـــا يـفـطــر إلا إذا قــــد شــــاف الــهــلال
ولا يحـوّل إذا شــاف السـبـل فــي المـخـال
إلا إذا عـايـن الـمـاء فــي مجـاريـه ســـال
والصدق مطلوب في الإنسان والعقـل مـال
وصاحب الصدق ما يطرح بناه على الخبال
وإما الذي يجتري على الكذب مالـه مجـال
لـو جـاك بالصـدق قـالـوا الـنـاس ذلاّهـبـال
مـعـاد يستامنـونـه الاصـدقــاء فـــي قـبــال
والحـاصـل إن الخسـاسـة مــا قفـاهـانـوال
لا فــي الـدنـيـا ولا فـــي الآخـــرة والـمــآل
ولا فـي الديـن حيـث الديـن منشـي الكمـال
يالله يــــارب يــــاذا الــطـــول يـاذالــطــوال
يـاعـالــم الــســر يـاغــوثــاه يـاخــيــر وال
يامـن الــى بــاب جــوده والـكـرم الابتـهـال
ياسامـع الصـوت غـث عبـدك وحـط الثقـال
دعــاك يـامـن إلـيـه المشـتـكـى والـســؤال
فاغفر له الذنـب والاجابـه تقـع فـي عجـال
ياساجـي الناظـر العـظـم الصلـيـب انـدخـل
كـثـرت علـيـه النـوائـب وانـــدراج الـعـلـل
ذابتـه لكـدار والصفـو انسـلـب واضمـحـل
تكـاثـرت ذا الشـواغـل دوب تـاتــي جـمــل
واسبابـهـا جـــم يـلـحـق عـددهــا بالـمـلـل
الا نبـيـن ونـشــرح بعـضـهـا فـــي عـجــل
بـلـفـظ مـوجــز نـبـيـن اعيـانـهـا بالـسـهـل
بــدوا كـلامـي=وذي مـنـه هيـامـي حـصـل
ذنــوب ثمراتـهـا يــوم الـحـسـاب الـخـجـل
جنيتهـا بيـئـس مــا اجـنـي وبـيـس العـمـل
مليـت ظـهـري وظـهـري مــا يـشـل الثـقـل
وانـــا قـطـبـتـه وحـمـلـتـه ثــقــال الــعــدل
تابعـت نفسـي علـى فعـل الجـفـا والخـطـل
بأعمـال مـا ترضـي الخالـق تعـالـى وجــل
لو هي على الحيد لصرم صد منها وارتقل
والحاصـل انـه تفانـا الصبـر والجـهـد كــل
يــــاالله يـاربـنــا يــــاذي عـلـيــك الــوكــل
اغفـر لعبـدك بعفـوك حيـث مـاشـي عـمـل
ذا بعـض ماهـو علـى بالـي نـجـز وانتـقـل
والثانـي الوقـت واهلـه دلهـم يـا خــس دل
مـعـاد للـصـدق مـسـلـك عـنـدهـم يحـتـمـل
لا يسمـعـونـه مـــن الـــراوي ولا يـقـتـبـل
اذا تفكـرت فيهـم يلـحـق فشلـهـم بالوحلال
كـذب مقبـول وامـا الصـدق واهلـه بطـل
والشين الشيـن صرفـه عندهـم فـي محـل
ماعـاد حـد يتبـع اهلـه فـي قفـاهـم هـشـل
خــذوا مـقـارب دنـيـه وارتـضــوا بالـخـل
ـلمـن كـان يطلـب وفـا منهـم تعـب واشتغـل
مـعــاد بايـسـلـك الا مـــن شـــور لـلـحـيـل
وإلا مرابـي يشـوف الفـلـس مـثـل الجـبـل
مـحـرب لـمـولاه والـهــادي خـبــر منـتـقـل
يـهـوون قـربـة ولــو مــا فـيـه حـتـى قـبـل
إذا بـــــدا بـيـنـهــم كـــــلاّ تـــواضـــع وذل
ورحبـوا بــه وقـامـوا للشـقـي عــن كـمـل
وان جـاء الـى قـاضـي فــي جنـابـه عــدل
يقـبـل حديـثـه ويلـقـي لــه حـجــج لاتـســل
ولا يبـالـي ولـــو حـــد فـــي خـلافــه نـقــل
إذا شطـح قـال خـذنـا فــي طـريـق الجـمـل
وافتـى بقـول المقـابـل واعـتـرض للـجـدل
والقـى حكايـات وحجـه قاطعـه فــي مـهـل
قـديـم والا مضـعـف شــاذ مــا بــه عـمــل
لمـيـد يرضـيـه لـيــش انـــه تـهــم بالـكـيـل
والـنـاس كــلا الــى شـانـه الـيـه اسـتـهـل
تأتـيـه زوار فــي مـثـواه مــن حـيـث حـــل
وان قـال قـول ولــو فـيـه الخـطـأ والـزلـل
قبلـوه واعطـوه فـي زعمـه علـى مايـسـل
وهــو حـقــر لا تـقــول انـــه يـمــد الـذبــل
يبـات يحسـب ويضـرب فـي حسـابـه مـثـل
ريـتـه يــودي زكـاتــه للـخـسـاس الـسـفـل
جـــزا محـبـتـه ذي جـبـلـوا علـيـهـا جـبــل
امـا الـذي مـا معـه شـي مابقـي لـه عمـل
ولا محـبـه ولـــو فـيــه الـطــرش والـنـبـل
والقـا خشاخـش ودهــن مفـرقـه واكتـحـل
مسكيـن مـن لامعـه درهـم ولا لــه وســل
حتـى كلامـه يصيـب النـاس مـنـه الـزعـل
لـو قــال ويــن الطـريـق الـجـاده مــا يــدل
وان جـاك يفـتـي بعلـمـه قـالـوا انــه زلــل
مــا حــد يحـبـه ولــو فعـلـه علـيـه الطـلـل
كـــلا يـنـكــر ويـلـقــي فــــي حـديـثــه زول
لــو قــال هــذا عـطــارد قـالــوا إلا زحـــل
ايـضـا ويشنيـنـه الزيـنـات دعـــج الـمـقـل
وامـــه تـذمــه ويدخـلـهـا عـلـيـه الـفـشــل
يـهـوى ولا يهـتـوي مسكـيـن مــن لابـكــل
جملـة مقاصـده يقصـر دونـهـا مــا اتـصـل
لـو حـد يفـتـش عـلـى كـبـده لحقـهـا فـصـل
ذا والصفـا عــز والعـربـان واهـلـه هـمـل
وامـر الشريعـه خـرب مبنـاه والـديـن قــل
عـم الـربـا فــي نـواحـي سهلـهـا والعـكـل
مـــا حـــد يـنـكــر الـمـنـكـر بــحــد الـقـلــل
ولا لـســانــه ولا بـقـلـبــه حــتـــى يــــــدل
حتـى بـدا النقـص فيهـم واخـتـراب الــدول
وجـاهـم ابلـيـس والفتـنـه علـيـهـم شـعــل
فـــرق عـبـاهـم وكـــل فـــي رفـيـقـه قـتــل
مـا عـاد واحـد فـي اخوانـه مطـول الأمــل
واللـوم كـلا لسـيـف الظـلـم والبـغـي ســل
يبات في سره احقد عالعرب من ابـا جهـل
والحسـد والبغـض مـا بيـن القـرابـه نــزل
تقابضـوا باللـحـا وامـسـوا شبـيـه السـفـل
وامسـت حوطهـم مجامـع لسّـوق والـدلـل
شبيـه الاسـواق فيهـا كـل مــن جــا دخــل
مـن بعـد مـا كـان فيهـا الذكـر دايــم يـشـل
تسمـع لهـم يـوم تقهـد فـي الدياجـي زجـل
مـــا يعتلـيـهـم إذا جـــن الـظــلام الـكـسـل
رجـعـت مـحـل المظـالـم مـثـل ديــم النـغـل
شبه الفريسـه علـى جمـع الزبـق تشتمـل
كـلا بغـا منهـم شـي واصبحـوا فـي الـرذل
قـلــت حـرمـهـم وداسـوهــم وكـــل حـمــل
كمـا الذيـاب الضـواري فـي قفاهـم رســل
واهـل السلـف يـوم زلـوا ضيعوهـم جـمـل
العـلـم تـركـوه والجـهـل ارتـكـز واسـتـقـل
تسـاهـلـوا بالـفـرايـض ذي بـهــا تـحـتـفـل
لكـن عسـى خـيـر عـلـه يرتـفـع مــا نــزل
عـلــه ينسـمـنـى السـهـنـا اذا قـلــت عـــل
يا صاحـبـي قلـبـي الشـاغـل الـيـه ارتـحــل
والطـرف يقهـد إذا نـجـم السـمـاك اعـتـدل
لـو شفتنـا قـلـت هــذا بــه جـنـان أو هـبـل
أو هــو بـلـي بالمـحـبـه وافـتـتـن بـالـغـزل
وهـي معـانـي ومعنـاهـا فــي القـلـب حــل
والختم صلوا على مـن جـاء بخيـر الملـل
صـلاة دايـم عـلـى مــر المـسـاء والمـظـل
وماحنت العيس في البيـداء ومـا شهرهـل
وما قرأ قـاري او فـي البحـر تصـر الدقـل
جاء في مخطوطة الرياض المؤنقة للسيد علي بن حسن العطاس (( السكن والاقامة في بلدة حريضة يورث سبعة اشياء في الغالب :
- قوة القلب
- ونسيان الآخرة
- والرغبة في الدنيا مع الفقر
- وعدم الاعتقاد في من ينسب الى الدين والخير والصلاح
- محبة الخصومة والنزاع
- قل الطاعة
- خفة المعصية وهذا راجع الى رحيل الرعيل الأول من الرجال الهداة الداعين الى الله
ماهي سر هذه القسوة من لدن السيد علي بن حسن العطاس على بلدته (( حريضة )) مسقط رأسه وبلاد أهله ؟؟ ولماذا هذه الأحكام القاسية في حق أهلها ؟؟
إن معاناة العلامة السيد علي بن حسن العطاس مع اهل بلدته (( حريضة )) معاناة فيها شعور بمرارة الأخفاق الشديد الذي سبب له نكأ الجراح والآلام على النفس ، وغبن وشعوربالظلم خاصة من ذوي القربى ، وهذا ما لم تصبر عليه نفسه الحرة الأبية ، حيث كان الحسد والتباغض سمة تميز بها المجتمع (( الحريضي )) في تلك الحقبة ، فساعدت هذه البيئة على ظهور اعداء النجاح في محيط مجتمع تذب فيه الخصومة بين الأقارب حين تتعارض المصالح ، وبما أن السيد علي بن حسن العطاس كان يتطلع الى دوراصلاحي كبير يخدم فيه دينه ومجتمعه ، ويجرد نفسه للدعوة الى الله في مجاهل أودية حضرموت ، وبحجم الدور الذي كان يتطلع الى تحقيقه ، كان حجم خصومه وحساده يزداد يوما بعد يوم لهذا لاغرابة ان يقرر الهجرة من حريضة الى الهجرين ، ومن الهجرين جاءت فكرته في تأمين منطقة الغيوار وتاسيس المشهد
.
وهو لايخفي خصومة ابناء بلدته له وخاصة االأقارب منهم وذلك ما ذكره في كتبه حيث اشار الى اعداء النجاح ، ومعاناته معهم واشار في شعره بالتصريح ومنها قوله رحمه الله :
قل للمغني جوابك من علـي بـن حسـنيامرحـبـا بـالـذي هــو للـقـوافـي لـحــن
ابيـات حلـوات والسـامـع لـهـا مافـطـنيذكر حريضه وعنـده مـن قداهـا شجـن
وقـال مـن لـه قريحـه فـر منـهـا وطــنيـبـاه يـعـزم يفـارقـه الـشـقـا والـحــزن
مـن فيـه حركـه وهمـه عـده الا ضـعـنيقفـي ويبعـد اذا قـد لـه فــي الـعـز فــن
يعمـد فـي الهنـد والا الشـام والا اليمـنيسلى التشباح في العورا وبيـر العطـن
بـلادنـا يافـتـى ضـاقــت وفـيـهـا مـحــنتغـيـر الـسـر فــي مــن حلـهـا والـعـلـن
واستأصلوا بالخصومه وارتشان الفتنوكـل واحـد عـلـى مـاقـال يـطـرح ثـمـن
ويؤكد ايضا في قصيدة أخرى ما ذكرناه حول علاقته بأقرباءه يقول فيها :
إن شاهدوا حسنه ارخوا دونها الأستـار
وان شاهدوا سيئه أبدوها على الحضـار
وان شاهدوا نعمه أذكوا من حسدهم نار
دائـم وحـذف البـلاء منهـم الــى مـثـواي
ولا تجينـا المصائـب غـيـر مــن قـربـاي
وقد كنت محضر لذلك على ان اذكره لاحقا ولكن الفضل للمتقدم ، اكتفي بما ذكرته ووضعته .
كان السيد علي بن حسن العطاس صاحب رسالة اجتماعية املتها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمجتمعه ، لم يكتفي بموقف سلبي يتفرج على أحوال الناس في عصره، بل كان شاهدا على مجتمع تتجاذبه اهواء القبائل المتناحرة والعشائر المتصارعة على الحكم ، وفي ظل غياب العدالة الاجتماعية واضطراب الأمن والفوضى تولدت عنده فكرة مشروع الدعوة الى الله بين القبائل ، وتأسيس حوطة آمنة في عقر مكان اشتهر بأنه مأوى اللصوص والقتلة ، وعقد هدنة سلم بين القبائل تدوم شهرا من كل سنة . وجمع في هذه الهدنة الناس في زيارة حولية ((زيارة المشهد )) ...!!
ولكن مع كل مشروع اصلاحي عظيم لابد من أن يظهر معارضون له من الذين لا يسرهم نجاح القائمين عليه ، ولابد من أن يرجف المرجفون إما شفقة على صاحب الفكرة ، لا يجهض مشروعه ويفشل ، أو شفقة على القائم عليه من المعاناة التي قد تنظره ، وقد نبا الى سمع السيد علي بن حسن العطاس شيئ من ذلك فوجه خطابه لهم ، وجاء في صورة عن حالة تلك المنطقة التي قرر السيد بن حسن أن تكون واحة وحوطة آمنة ، وكيف كانت وكيف هو حالها الآن ، و يرسم لنا في رده على المرجفين والمنكرين في قصيدة قال فيها :
يـاذي تنكـر عليـنـا فــي ريــاض المخـيـف
وفي سقا العاطش المقطوع ذي هو لهيف
وتكـثـر الـســب فـيـنـا معـتـنـي بالـهـذيـف
ما تخشى من عذاب الله علـى مـن يحيـف
تركت الأنصاف قولك صـاف والله نصيـف
ياصاح لو كان بك معقـول زاكـي وصيـف
افكرت فـي ذا الملصـه صيتهـا لـه رجيـف
هـو كـان حـد يعتبـر فيهـا ولا لـه سعـيـف
والليله أمسـت مـن العربـان تنعـف نعيـف
تقـول قيـدون لــي زوارهــا حــول صـيـف
وإلا تريم المدينـة فـي الشتـاء والمصيـف
وإلا حريضه متـى مـا طـاب بهـا الخريـف
في رحلة الكلمة الشاعرية الجميلة نتزود من مدرسة العلامة السيد علي بن حسن العطاس زاد روحي تتجلى فيها الذات لتحلق نحو الجناب الأسنى ، والتزود من ديوان السيد علي بن حسن العطاس هو زاد يختزن في اسطر ابياته منجم لغوي يعبر عن قدرة الشاعر التعبير باللغة الحضرمية عن المعاني السامية ، من مضامين روحية ، وحكم و مواعظ ، وعصارة تجارب في الحياة جاءت في صور ومحسنات بديعية جميلة . ومن أقوال الشاعر العلامة السيد علي بن حسن
ياعوض لا تروم الجود من كـل سُفلـه
شفـه مـا يلحـق للطالـب إلا مـن أهـلـه
له معادن يجد فيها وهـي غايـة اصلـه
در على اربابه انشد منهم فـي المحلـه
سـر قفاهـم ولـو طــال السـفـر لاتمـلـه
فإن حاجتـك تقضـى كلمـا شيئـت شلـه
حين تقبل ترى اوجاه الرضـا مستهلـه
بالـمـسـرات والـتـرحـاب ذي تستـحـلـه
مـا تكـش مـن المقاصـد إذا حـط رحلـه
بل ينال المنى في الحال من غير مهله
والفسول الحذر تستهن بهـم سـد خلـه
وانتـزح مــن حمـاهـم لا تسـنـح بظـلـه
لا يغربك سراب الهجر تتعب من أجلـه
تحسبه ماء إذا قد جيت ما ادركت بلـه
قال الامام الشافعي رحمه الله
وعين الرضا عن كل عيـب كليلـةولكن عين السخط تبدي المساويا
وقال محمد بن القاسم الحريري ( صاحب المقامات
سـامـح أخـــاك إذا خـلــطمـنــه الإصـابــة بالـغـلـط
وتـجــاف عـــن تعـنـيـفـهان زاغ يـومــاً أو قـســط
واحـفـظ صنيـعـك عـنــدهشكـر الصنيعـة او غـلـط
واقض الوفـاء ولـو أخـلبما اشترطت وما اشترط
واعـلـم بـأنـك إن طلـبـتمـهـذبـاً رمـــت الـشـطـط
من ذا الذي مـا سـاء قـطومـن لـه الحسـنـى فـقـط
وقال السيد علي بن حسن العطاس رحمه الله في مجارات قول الحريري
عيـن الرضـا مـا تـرى فـي خلهـا عيـب قــط
ما تنظـر العيـب الأسـود غيـر عيـن السخـط
وأمــا صديـقـك إذا شـــاف الـخـطـا والـغـلـط
يـقـول عــاد الـزلـل مـرجـوع مـاشــي فـــرط
يخفـي عيوبـك ويصـرط منهـا مـا اصـطـرط
وإن شاف شي زين شاعه في جميع الخطط
والعـيـب يخفـيـه مهـمـا بـــان وارى وغـــط
ومــن تـعـادى رمــى بالشـيـن فـوقـك وحــط
واسمـع كــلام الحـريـري فــي ملـيـح النـمـط
لـمــا نـظــم فـــي مقـامـاتـه بـقـولـه وخــــط
اعـذر صديقـك وصنـوك فـي الـذي قـد غـلـط
وقال مـن ذا الـذي مـا سـاء مـن النـاس قـط
جــوب علـيـه المـجـوب بـعــد مـــده وشـــط
إن الـــذي قـــد تـكـمـل فـــي جـمـيـع الـنـقـط
مـحـمـد المصـطـفـى جـبـريـل عـنــده هــبــط
صـلـى علـيـه المهيـمـن مــا قــرا لـفـظ خــط
يا سلام على الحبيب
رؤية مفكر إجتماعي يتدارس أحوال الناس ويرصد تجاذباتهم الحياتية بكل دقة
ما بدا قرات له قصيدة عن مصارعته للجن الأحمر والأزرق !!!
رحم الله السيد علي بن حسن العطاس
وشكرا على هذا الموضوع الزاخر أستاذنا الجليل
يعد السيد العلامة علي بن حسن العطاس عالم اجتماع من الدرجة الأولى فما كتبه من نصوص أدبية نثرا وشعرا تتضمن دراسة للأحوال الاجتماعية وسلوكيات الناس في عصره . لذا تأتي قصائده زاخرة بكل المعاني التي تصور لنا نماذج اجتماعية ذات سلوك مختلف ومتناقض ، عبر عنها في صورها الحقيقية وبكل شفافية ومصداقية دون مواراة ونفاق أومجاملات . وهذه القصيدة تأتي ضمن تلك القصائد التي تشخص سلوكيات ابناء مجتمعه قال فيها رحمه :
مسكـيـن يـاعـذب مـــن يـغـتـر بالـبـرذقـه
يحسـب سـراب الخـلا مشـرب اذا شـوقـه
وكـل مـن جـاب لـه علـم او خبـر صـدقـه
لـو كـان مـن كـان كـل انسـان عنـده ثقـه
لـو جـاه مزلـق يزهلـق لـه زلـق وازلـقـه
يجمـع لـه الصـدق فـوق الكـذب ثـم لفقـه
وغــيــر الــقــول بـالـهـذيــان والـنـقـنـقـه
لمـيـد يـرديـه يبـحـث لــه فـــي المـرفـقـه
وان حد رثي له من التمحيص ذي يلحقه
او قــال شــف ذاك بـايــر مـالــذي نـفـقـه
رشـــن عـلـيـه الـنـيـار القـيـمـه المعـلـقـه
واقبـل يهضـه ويعـرض لـه بغـا المحذقـه
وحـاسـب الـعـرف والـعـقـول بالمـسـوقـه
وهو عمي غور ما يحكم سوى الشعوقـه
مـن جـاء يعيبـه اذا شـاف ســرب سـرقـه
كـم غـور مغمـور فـي الدنيـا يبـا البنـدقـه
فـي سعـف ربعـه يجرونـه الـى المشنـقـه
ماقـصـدهـم مـنــه الا الـقــوت والـدقـدقــه
ماهـي محبـه خليـصـه مـاهـي الا خنبـقـه
وكــل واحــد الــى اللـقـمـه يـبــا مـطـرقـه
والحاصـل ان الزمـان احـتـاس باللهوقــه
تـشـوف كــلا يـرفـرف لابـــس المنـطـقـه
باني علـى الكيـد مستبطـن علـى الزندقـه
يسعى قفا الكذب فـي جهـده وهـو يمحقـه
وبعـد يـنـزاح مــن حـولـه اذا قــد اغـرقـه
إلا السـعـيـد الـــذي رب الـسـمـاء وفــقــه
يمسـي مـن النـار ناجـي واللـحـا محـرقـه
يـعـامـل الـكــل بـالـصـدق الـــذي حـقـقــه
ولا يبالي ولا هو خايف من شي مشنقـه
او كـــان والــيــه بالـمـنـشـار بـايـشـرقـه
ابـــدا حـديـثـه ولا داهـــن لـمــن يعـشـقـه
مـا ينتظـر غمـز مـن حــرك لــه العنفـقـه
ولا صــغــيــره ولا يــأتــيــه بـالـرقــرقــه
يهـنـاه مــا نــال مــا حــد لـلـعـلا يسـبـقـه
عزيـز فـي النـاس مثلـه ليـت مـن يلحقـه
يـبـغـا يـــزوره ويـطـلـب مـنــه الـتـوثـقـه
لـعـل يـدعــو بـدعــوه صـالـحـه صـادقــه
تقـبـل سريـعـه وتصـعـد للحـجـب خـارقـه
وامـسـت لــه شـجـرة التـوفـيـق مـورقــه
يسلى التعب والنصب والدوب والشقشقه
وتنـفـتـح لـــه قـفــول الـغـايـه المـطـلـقـه
والخـتـم يــارب سـامـح بــك الـيـك الثـقـه
واغـفـر لـنـا ياكـريـم اوزارنـــا المـوبـقـه
واطلق رهائن رقاب اهل الخطـا الموثقـه
فمـا لهـم غيـر عـفـوك ورحمـتـك سابـقـه
قــدرت أعـيـش الـواقـع الـلـي مــا قــدرت أتخيّـلـه
مدري أصبت العذر أو في عذري أخطيت الصواب
بــس المـهـم إنــي قــدرت اضــرب لغـيـري أمثـلـه
وشلون ما يرجي ثواب الصدق أو يخشى العقـاب
ما هو غـرور ولا تواضـع .. كـل مـا فـي المسألـة
يا صاحبي .. إني رفضت أحسب لغير الله حساب
----------------------------------------------------------------------
زيارة المشهد
تقع قرية المشهد إلى الجنوب الغربي من مدينة سيئون ، على بعد نحو (90 كيلو متر) ، وهي قرية صغيرة على الطريق المؤدي إلى دوعن ، وتبعد حوالي (5 كيلو مترات) عن خط الإسفلت، أول من حل وأستقر بها الحبيب الأديب على بن حسن العطاس وارتبطت باسمه (1160هـ) ، بعدما خرج من مدينة حريضة وله مؤلفات واشعار عديدة كان رحمه الله له تأثير اجتماعي كبير، والمشهد تعنى أو تقابل الضريح نسبة إلى قبر العطاس ، وتقام زيارة دينية له سنوياً في الفترة الممتدة من 8 ربيع أول وحتى 16 منه وتصل أوجها يوم 12 ربيع أول ، الذي يصادف مولد الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) ويشارك فيها جميع فئات المجتمع الحضرمي وتقام فيها الدروس العلمية والوعظية حيث يحضر العلماء والدعاة وكما هي ملتقى اجتماعي وثقافي وديني فأنها تعتبر ملتقى تجاري يحضر اصحاب السلع المختلفة لعرضها. وتقام فيها الولائم والضيافة للزوار لابراز كرم اسرة العطاس المستضيفة.
وابرز معالم القرية قباب العطاس الثلاث كل واحدة منها عبارة عن ضريح مربع
تقريباً تقوم عليه قبة غير مرتفعة ، وفي داخل هذا الضريح القبر الذي نصبت عليه التركيبة الخشبية (التابوت) المزخرفة ، بزخارف نباتية متداخلة ومتكررة وإلى جانب هذه القباب هناك مسجداً صغيراً إلى جوارها وسقاية ماء ـ صهريج مغلق لخزن المياه. وهذه الزيارة تعتبر ملتقى ثقافي وتراثي واقعي تشاهد فيه الكثير من عادات وتراث وتقاليد الحضارم. ومن هذه العادات انه في حال وصول وفد من احد القبائل يأخذ الأذن من اهل المكان ثم يقومون بترتيب مدخل (اي استقبال خاص) حيث يخرج المستقبلين يحملون الطيران (الدفوف) وينشدون ترحيبا بالضيف ومن اكبر المداخل هو مدخل اهل حريضه العطاس يتقدمهم منصبهم (اي عميد الاسرة). ودمتم سآلمين
----------------------------------------------------------------------
تواصل فعاليات زيارة الحبيب علي بن حسن العطاس في المشهد بدوعن
نجم المكلا – صالح عسكول
تتواصل في قرية المشهد بوادي دوعن محافظة حضرموت فعاليات الزيارة السنوية التي أسسها الحبيب علي بن حسن العطاس منذ قرابة 300 سنة الذي يصادف %A